اكتشف معبد هيبس.. آخر معلم متبقي من العصر الصاوي الفارسي في مصر

الوادي الجديد –محمد الباريسي:

اكتشف معبد هيبس.. آخر معلم متبقي من العصر الصاوي الفارسي في مصر
اكتشف معبد هيبس.. آخر معلم متبقي من العصر الصاوي الفارسي في مصر

في قلب واحات الوادي الجديد، وعلى بعد ثلاثة كيلومترات شمال محافظة الخارجة، يقف معبد هيبس شامخًا كأحد أندر وأهم المعالم الأثرية في مصر، حاملاً عبق التاريخ الذي يمتد عبر آلاف السنين، وما زال يحكي قصص حضارة عظيمة امتزجت فيها العصور الفرعونية والفارسية والبطلمية والرومانية في تحفة معمارية لا مثيل لها، يُعد معبد هيبس الرمز الرسمي لمحافظة الوادي الجديد، ويحمل اسمه من الكلمة اليونانية “هيبس” التي تعني “المحراث” في المصرية القديمة، وهو الاسم الذي يطلق أيضًا على مدينة الخارجة، حيث ينتمي المعبد والجغرافيا لتاريخ زراعي عريق يعكس خصوبة الأرض وانتعاشها منذ العصور القديمة، قال الأثري محمد إبراهيم، مدير الآثار المصرية بالوادي الجديد لـ “نبأ العرب”، إن أهمية المعبد تكمن في كونه آخر نسخة متبقية من العصر الصاوي الفارسي للأسرة السادسة والعشرين (660 – 330 قبل الميلاد)، ويُعتبر شاهدًا على تطور مصر عبر حقب متعددة بدءًا من الدولة الوسطى (2100 ق.م) مرورًا بالعصور الفرعونية القديمة وصولاً إلى العصر الروماني.

تاريخ عريق
يؤكد إبراهيم، أن معبد هيبس شُيد خلال عهد الملك الفارسي دارا الأول (510-490 ق.م) فوق أنقاض معبد قديم يرجع إلى عصر الأسرة السادسة والعشرين في عام 664 قبل الميلاد، وقد وُجد له جذور تعود إلى عصر الدولة الوسطى قبل أكثر من 4000 عام، وقال إنه بدأ بناء المعبد على يد الملك بسماتيك الثاني ثم الملك إحايب رع إبريس، مع إضافات ونقوش استمرت حتى عهد دارا الأول، الذي حرص على تزيين المعبد بالنقوش التي تكرم الآلهة وتؤكد مكانة الكهنة، وقد ظل المعبد يتلقى تطويرات من عدة حكام عبر العصور، إذ أُضيف الفناء الخارجي في عهد نختانبو الأول والثاني، وبنيت البوابة الكبرى في عهد بطليموس الثاني، بينما أضاف الرومان بوابة أخرى، مما جعله مزيجًا فريدًا من الفنون المعمارية عبر العصور، يروي الأثري محمد حسن جابر، مفتش آثار الخارجة، أن تخطيط المعبد يحاكي تصميمات المعابد المصرية في الدولة الحديثة، حيث يبدأ المعبد من الشرق بمرفأ صغير كان مخصصًا لاستقبال السفن والقوارب المقدسة، يليه البوابة الرومانية ذات النقوش اليونانية التي تتضمن تشريعات وإصلاحات قانونية واقتصادية كانت تُطبق على مصر بأكملها، وقال جابر، إن المعبد يضم طريق الكباش الذي شُيد في العصر البطلمي ويضم 4 كباش على كل جانب، ويوصل إلى البوابة البطلمية، التي تعرضت لأضرار زلزالية في القرن الثامن عشر، ما أدى إلى تدمير جزء كبير منها، تليها البوابة الفارسية التي تعود لعهد دارا الأول.

موطن ثالوث طيبة
قال مدير الآثار المصرية بالوادي الجديد، محمد إبراهيم، إن المعبد يحتوي على مجموعة رائعة من النقوش واللوحات الجدارية التي تصور الملوك وهم يقدمون القرابين لثالوث طيبة المقدس: آمون، موت، وخنسو، إلى جانب عبادة أوزوريس وإيزيس وحورس، من أبرز اللوحات لوحة نادرة تصور الإله ست وهو يقتل ثعبان أبوفيس رمز الشر، في مشهد يعكس المعتقدات الدينية القديمة، وأوضح إبراهيم، أن المعبد يضم أطول لوحة جدارية تسرد تشريعات حاكم الواحات، وتشمل أقدم نص قانوني لحماية حقوق المرأة وتحقيق العدل بين المواطنين، مشيرًا إلى أن هذا النص يشكل شهادة على تطور الحضارة المصرية القديمة في مجال القانون والحقوق الاجتماعية، ويحتوي المعبد أيضًا على ممرات سرية، سلالم تؤدي إلى الطابق الثاني حيث توجد مقصورة لعبادة الإله أوزير، ومبنى “الماميزى” أو بيت الولادة في الجانب الجنوبي الغربي، ما يدل على غنى المعبد بالمعالم الدينية والمعمارية التي تعكس طقوس العبادة في مختلف العصور.

رحلة إنقاذ وترميم تاريخية
تعد جهود ترميم معبد هيبس من أطول رحلات الترميم في مصر، حيث بدأت الدراسات التحضيرية عام 1999، ثم جرى العمل الفعلي عام 2005 بتكلفة إجمالية وصلت إلى 71 مليونًا و650 ألف جنيه، أوضح الخبير الأثري بهجت أبو صديرة مدير الآثار المصرية السابق بمركز الخارجة، أن الترميم شمل تنفيذ حائط فلترى بعمق 13 مترًا وعرض 80 سم حول المعبد وملحقاته لمنع وصول مياه الرشح إلى أساسات المعبد، إضافة إلى توسعة المنطقة الأثرية لتشمل 9 أفدنة مع تشييد سور أثري يحدد حرم المعبد، وقال بهجت، إن مراحل الترميم شملت ربط الجدران بنظام “سينتك” بعد قرار الإبقاء على المعبد في موقعه الأصلي دون فك ونقل، كما جرى استبدال الأرضيات التالفة بأرضيات من الحجر الرملي مشابهة للأصل، فضلاً عن إعادة بناء مبنى المرسى والماميزى والبوابات البطلمية والرومانية، وتشييد السور الخارجي حول المنطقة الأثرية.

ظاهرة تعامد الشمس
نفذ المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية دراسة علمية رصدت ظاهرة تعامد الشمس على قدس الأقداس داخل معبد هيبس، وهي ظاهرة تحدث مرتين سنويًا في أبريل وسبتمبر، حيث تتعامد أشعة الشمس بزاوية أفقية تبلغ 83 درجة على جدران المعبد الداخلية، قال الدكتور جاد القاضي، مدير المعهد السابق، في تصريحات لـ”نبأ العرب”، إن هذه الظاهرة تعكس مدى مهارة القدماء المصريين في علوم الفلك والهندسة، حيث لم يكتفوا بمراقبة الشمس والكواكب، بل قاموا بحسابات دقيقة لشروقها وغروبها ووضعوا تقاويم معتمدة عليها، مضيفًا أن أشعة الشمس التي تخترق قدس الأقداس تعبر عن دقة بالغة في الهندسة المعمارية المرتبطة بالطقوس الدينية.

تاريخ زراعي وإنساني
يروي معبد هيبس عبر إطلالة قصة تاريخية عن ازدهار الزراعة والنماء في واحات الصحراء الغربية، التي كانت تُعتبر من أكبر مخازن الحبوب في مصر القديمة والإمبراطورية الرومانية، حتى تحولت بفعل الجفاف إلى صحراء قاحلة مع احتفاظها ببعض الواحات والعيون القديمة للمياه، يقول الباحث في شؤون الواحات محمود عبد ربه، في تصريح خاص لـ”نبأ العرب”، إن اسم “هيبس” مشتق من المصطلح اليوناني لكلمة “هبت” المصرية القديمة التي تعني المحراث، مشيرًا إلى أن ذلك يعكس خصوبة الأرض ودورها في الزراعة ووفرة المياه في تلك الواحة في العصور القديمة، ما جعلها من أهم مراكز تخزين الغلال.

من عبادة الآلهة إلى مركز جذب سياحي
على الرغم من تحطم أجزاء من المعبد بسبب الزلازل وتحركات الأرض التي أدت إلى تشققات في جدرانه نتيجة الرطوبة والمياه الجوفية المحيطة بأراضي النخيل، جرى ترميمه بعناية فائقة من قبل وزارة السياحة والآثار، التي وضعت خططًا لتطوير الموقع وإنارته ليلًا، ما يخلق بانوراما تاريخية تأسر زوار الواحات وتربط بين جمال السماء في الصحراء وعبق التاريخ المصري العريق، أكد الخبير الأثري طارق القلعي، مدير متحف آثار الوادي الجديد، أن معبد هيبس يُعتبر من أهم المعابد المصرية وأبرزها، إذ لا يوجد له مثيل من العصر الصاوي الفارسي في مصر، مشيرًا إلى أن المعبد يضم مجموعة ضخمة من النقوش والمناظر الدينية التي تعكس عمق التراث الديني والفني، إضافة إلى كونه يحوي أقدم نص قانوني لحماية حقوق المرأة، وهو ما يؤكد أن المصري القديم كان سباقًا في الحقوق والعدالة.