الإسماعيلية – أميرة يوسف:

مواضيع مشابهة: نجوم الفن في عزاء والد رئيس دار الأوبرا المصرية.. 25 صورة مؤثرة توثق اللحظات
على ضفاف بحيرة التمساح في محافظة الإسماعيلية، حيث تتلاقى المياه مع السماء في منظر يأسر الألباب، ترسو فلوكة صغيرة تحمل بين طياتها أربعين عامًا من الحكايات والأمل والتعب، إنها فلوكة “عم عرفة”، الرجل الذي جاء من الدقهلية ليجعل من مياه القناة وطنًا، ومن الخلول رزقًا، ومن السماء رفيقًا دائمًا.
نشأ عم عرفة في عائلة تعشق البحر، ورث مهنة الصيد عن والده، وعلم منذ صغره كيف يغزل الشباك بإبرة صغيرة وخيط متين، وكيف يقرأ الماء قبل أن يتحرك، وكيف يستخرج الرزق من أعماق البحر برحمة وليس بطمع، انتقل إلى الإسماعيلية منذ سنوات طويلة، لم يكن يملك سوى فلوكة قديمة وشبك نسجه بيده، ولكنه كان يحمل في قلبه شغف البحر، وفي صوته نغمة نادرة.
يبدأ يومه قبل بزوغ الفجر، يستيقظ من داخل الفلوكة حيث ينام ليلاً، يمد يديه نحو السماء، ويبدأ في الابتهال بصوت عذب، صوته يتردد في أرجاء البحيرة وهمسات دعائه تتراقص مع الموج، “يا رب رزقك وسترك.. يا رزاق يا كريم”، يكررها وهو ينظر إلى السماء، ويؤكد أن البحر يحنو عليه عندما يرفع أكفّه بالدعاء.
لا يقتصر عم عرفة على مهارة الصيد فقط، بل يتقن أيضًا فنون الغناء للبحر، ويعد أطباقًا لا تُنسى من الخلول، فهو ليس مجرد صياد، بل هو فنان في فن الطهي، وعند الغروب، يعود إلى الشاطئ محملاً بغنائمه، يفرش البلطي والبوري والسيجانا والخلول على طاولة خشبية صغيرة، ويبدأ في تحضير أطباقه المميزة، وعلى رأسها “الخلول”، الذي يعتبره “ملك البحر”.
اقرأ كمان: إسبانيا تطالب الاتحاد الأوروبي بحظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل لتعزيز السلام والأمن
يتوافد الناس من كل حدب وصوب، بعضهم جاء لتذوق الطعام، وآخرون للاستماع إلى الحكايات، فلكل نوع من السمك عند عم عرفة قصة، ولكل زبون نصيب من الدفء والحنان، وفي بساطته، لا يتوقف عن الحديث والابتسامة وتقديم الأطباق وكأنها هدايا من البحر.
الخلول عند عم عرفة ليس مجرد أكلة، بل هو قصة تراثية تبدأ من أعماق البحيرة وتصل إلى طبق متكامل الطعم والفائدة، فالخلول – أو محار البحيرات – يشكل 42.28% من إنتاج البحيرات في مصر، ويُعتبر كنزًا غذائيًا غنيًا بالبروتين والدهون المفيدة للمخ وبناء الخلايا العصبية، بالإضافة إلى كونه مقبلات شهية وأساس لحساء بحري يُقدَّم في أرقى المطاعم.
يقول عم عرفة بفخر: “فيه خلول بنسميها العرايس، لونها مائل للحمرة وملمسها ناعم، ودي بتكون في التمساح والبحيرات المرة، وفي نوع آخر اسمه الخلول السباع وخلول بلطي، تُؤكل مملحة وتُرى بكثرة في بورسعيد”.
يُصاد الخلول بطرق عدة، منها طريقة الجرافة ذات السنون الطرفية، والتي تُستخدم في البحيرات العميقة جنوب الإسماعيلية، ومنها طريقة “الكريك والمهزة” التي تعتمد على فريق صغير يجرف الرمل ثم يصفيه لاستخراج المحار، وبعض الصيادين لا يزالون يغوصون بأيديهم بحثًا عن الخلول، رغم صعوبة الطقس ومخاطر الأمواج، خاصة في الشتاء حين ينضج المحار في البحر المتوسط.
في الصيف، تنشط حركة صيد وبيع الخلول في الإسماعيلية، ويتراوح سعر الكيلو بين 20 و60 جنيهًا حسب الحجم والموسم، أما عم عرفة، فيقدم طبق الخلول بأسلوبه المميز، مع الليمون والتوابل والشطة الحريفة، أحيانًا كحساء وأحيانًا على الجمر، والنتيجة طبق بحري لا يُنسى.
وفي المساء، بعد انصراف الزبائن وهدوء الموج، يجلس عم عرفة على حافة فلوكته، يُبتهل مرة أخرى، يغني للبحر ولذاته، ثم يستلقي في الفلوكة، يلف نفسه ببطانية خفيفة، وينام في حضن البحر، لا يشكو من الوحدة، بل يحمد الله على رزق اليوم.
يقول: “أنا ما عرفتش الراحة إلا وسط الميّه، والابتهال لله وأنا وسط البحر بيخليني أحس إني مش لوحدي أبدًا”.