بينما تتجه أنظار العالم نحو الخلافات السياسية المتعلقة بمياه النيل وسد النهضة الإثيوبي، تكشف لنا الأرض تحت أقدامنا عن دراما جيولوجية عميقة وأقدم بكثير، إنها قصة عنيفة تعيد تشكيل قارة بأكملها وتؤثر على مصير النهر الذي شهد ولادة أقدم الحضارات على ضفافه.

مقال له علاقة: حملة شاملة لضبط الأسعار في أسواق أسوان مع صور توثق الحدث
تحت السطح الهادئ للسياسة، يختبئ “بركان” هائل من الصخور المنصهرة، لا يقذف حمما، بل يمتلك قوة تمزق القرن الأفريقي ببطء وثبات، وفي خضم هذا التدمير، يتكشف سر نشأة نهر النيل الأزرق نفسه.
دراسة علمية ثورية، نُشرت في مجلة “نيتشر جيوساينس”، قدمت صورة غير مسبوقة لهذا المحرك الجيولوجي العملاق، البحث، الذي قادته العالمة إيما واتس وفريق دولي، لا يقتصر على تأكيد حقيقة انقسام أفريقيا إلى جزئين، بل يغوص عميقاً ليكشف عن آلية هذا الانقسام، وكيف أن القوى التي تمزق الأرض هي ذاتها التي خلقت الظروف التي تمنح الحياة لمصر والسودان.
إيقاع من نار في جوف الأرض
تتمدد القشرة الأرضية وتتصدع في منطقة “عفر” الإثيوبية القاحلة، عند ملتقى ثلاث صفائح تكتونية عملاقة (النوبية، والصومالية، والعربية).
هذا “الملتقى الثلاثي” هو نقطة انطلاق لأحد أكثر الأحداث الجيولوجية دراماتيكية على الكوكب: ولادة محيط جديد
جمع الفريق العلمي أكثر من 130 عينة صخرية من براكين حديثة النشأة موزعة على امتداد الصدوع الثلاثة، وأخضعوها لتحاليل جيوكيميائية دقيقة كمن يبحث عن بصمات وراثية في مسرح جريمة جيولوجي، وبعد دمج هذه البيانات مع خرائط جيوفيزيائية تكشف ما تحت السطح، واستخدام نماذج إحصائية متطورة، توصلوا إلى نتيجة حاسمة: ما يقع تحت عفار ليس عدة بؤر متفرقة، بل اندفاع صهاري واحد هائل، إنه ليس مجرد كتلة منصهرة، بل تيار عملاق غير متجانس كيميائياً، يحمل “نبضات” أو “شرائط” من مواد مختلفة قادمة من وشاح الأرض، لكن الاكتشاف الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذا “البركان” الصامت لا يعمل بمفرده
على مدار سنوات، اعتقد العلماء أن هذه الاندفاعات الصهارية هي قوى عمياء تدفع القشرة الأرضية وتجبرها على الانقسام، غير أن الدراسة الجديدة أثبتت أن العلاقة أشبه بـ”رقصة عنيفة ذات اتجاهين”، فالصفائح التكتونية على السطح لا تتأثر بشكل سلبي فقط، بل هي التي تتحكم وتوجه وتُشكل تدفق الصهارة القادمة من الأعماق.
وجد الباحثون أن البصمات الكيميائية للصهارة تتوزع على مسافات أطول في صدع البحر الأحمر، الذي يتوسع بسرعة أكبر، بينما تتكدس هذه البصمات على مسافات أقصر في صدع شرق أفريقيا الرئيسي، الذي يتوسع ببطء، حيث أطلق العلماء على هذه الظاهرة اسم (تأثير عنق الزجاجة).
يعمل الصدع السريع كطريق يسحب الصهارة بسهولة، بينما يعمل الصدع البطيء كـ”عنق زجاجة” يعيق تدفقها، مما يؤدي إلى تراكمها وتكدسها.
تُعد هذه المرة الأولى التي يتم فيها إثبات أن حركة القشرة الأرضية هي التي تنحت تدفق الوشاح العميق بهذا الوضوح.
مصير النيل وقصة الخلق
ينتقل النقاش من أعماق الأرض إلى سطحها، حيث يجري نهر النيل كونه شريانا للحياة في مصر والسودان، وقد يبدو هذا التمزق الجيولوجي في إثيوبيا تهديداً مباشراً لمستقبل النهر، لكن الحقيقة التي كشفتها الدراسة أكثر عمقاً وإثارة.
إن النشاط الجيولوجي العنيف الذي يمزق إثيوبيا اليوم ليس تهديداً بقطع مجرى النيل، إذ أن مصدره الرئيسي “بحيرة تانا” تقع بعيداً عن خط الصدع الرئيسي.
تعود نشأة نهر النيل إلى حركة جيولوجية مشابهة، فالاندفاع الصهاري الهائل الذي تتحدث عنه الدراسة هو نفسه القوة التي، على مدى 30 مليون سنة، رفعت الهضبة الإثيوبية الشاهقة عبر قذف طبقات هائلة من الحمم البركانية، والتي أصبحت “برجاً مائياً” طبيعياً، يستقبل الأمطار الموسمية الغزيرة التي تغذي النيل الأزرق بأكثر من 80% من مياهه في موسم الفيضان.
اقرأ كمان: موعد صلاة عيد الأضحى في القاهرة والمحافظات وكيفية تحديد التوقيت بدقة
كذلك، تعتبر هذه الصخور البركانية هي مصدر الطمي الخصب الذي حملته مياه النهر لآلاف السنين، ليروي أراضي مصر.
تظهر الدراسة أن القوة التي تمزق منطقة القرن الأفريقي بشكل ثابت ومنتظم، هي نفسها التي مهّدت الظروف لنشأة النيل الأزرق، ما يترك التهديد الوحيد للشريان المائي بين عاملي المناخ والتدخلات البشرية، وتشهد القارة السمراء عملية انقسام قد تستغرق بين 5 إلى 10 ملايين سنة لتتيح نشأة محيط جديد.