بي بي سي
تحمل عاشوراء في ذاكرة المسلمين الشيعة في العراق ودول أخرى مكانة مميزة، إذ يحيون سنوياً طقوس مقتل الإمام الحسين بن علي، بالقرب من كربلاء في القرن السابع الميلادي، فما سر احتفاء الشيعة بهذه الذكرى وما هي الطقوس التي يقيمونها؟
يروي المؤرخون أن الحسين بن علي بن أبي طالب توجه مع عدد من أهله وصحبه إلى الكوفة قادماً من الحجاز عام 680 ميلادية، للمطالبة بالخلافة بعد تلقيه دعوات من أهل العراق، وكان يزيد بن معاوية قد تولى الخلافة بعد وفاة أبيه، الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان.
لكن والي يزيد في البصرة والكوفة أرسل قوة لمواجهة الحسين مع عدد قليل من أنصاره، مما اضطرهم إلى مواصلة السير نحو كربلاء، وهناك حوصروا ومنعوا من الوصول إلى ماء نهر الفرات، ثم قُتلوا بعد معركة غير متكافئة، وأسرت النساء والأطفال، ومن بين من أسر أخته زينب وابنه علي زين العابدين، الإمام الرابع لدى الشيعة.
منعطف تاريخي
يعتبر مقتل الحسين وأنصاره وسبي أهله في “واقعة الطف” منعطفاً مهماً في تشكيل هوية الطائفة الشيعية، فقد مثّل مقتل الإمام الثالث عند الشيعة الإثني عشرية سنة 61 هجرية فاصلاً تاريخياً يستحضره الشيعة سنوياً للتفكر في دلالاته ومعانيه.
تتجاوز رمزية الحدث وعبره دائرة الإيمان الديني والانتماء الطائفي، حيث تمتد إلى أوساط اجتماعية وسياسية واسعة تقف ضد الظلم وتطالب بالعدالة، مستنيرة بقول الحسين في تلك الواقعة “إنما خرجت لطلب الإصلاح”.
أما الطقوس التي تُقام في هذه المناسبة، والتي تبدأ في الأول من محرم وتبلغ ذروتها في العاشر منه، فلم تقتصر على المجتمع الشيعي في العراق بل تُحيى في بلدان إسلامية أخرى تتواجد فيها الطائفة، كما امتدت إلى بلدان المهجر أيضاً، وإن كان ذلك على نطاق ضيق.
عادات وتقاليد
تقام خلال الأيام العشرة الأولى من محرم المجالس الحسينية وتُسيّر المواكب لاستذكار الحدث والتعبير عن الحزن بالبكاء ولطم الصدور، وينتشر اللون الأسود تعبيراً عن الحزن ليشمل اللباس والرايات الحسينية.
تعتبر تلك المجالس والمواكب، التي يرافقها تقديم الطعام لمن يحتاجه، من أهم الطقوس لدى الشيعة الذين يؤمنون بأن لمقتل الحسين دوراً في ترسيخ الدين وديمومة المعتقد، لما يملكه من شاهد على الثبات على المبدأ والمطالبة بالحق.
وفي بعض المناطق يتضمن إحياء الذكرى مسرحة الحدث، حيث تُقدم عروض في الهواء الطلق تُعرف بـ”التشابيه” تُروى خلالها أحداث واقعة كربلاء وتجسد شخوصها الرئيسية، بحضور أعداد غفيرة من الجمهور.
هناك من يرى في إحياء الذكرى نوعاً من الشعور التاريخي بالذنب بسبب “خذلان الإمام الحسين والتقاعس عن نصرته” عند قدومه إلى الكوفة، وثمة من يعزوه إلى الجهل في مغزى استذكار الحدث.
تُحيى ذكرى مقتل الحسين، وأربعينيته كذلك، في مدينة كربلاء التي يؤمها الزوار من مناطق مختلفة في العراق وخارجه، لكن طقوسها تُمارس أيضاً في المدن الأخرى التي تقطنها غالبية شيعية في العراق، إضافة إلى بلدان أخرى.
تقييد الطقوس
اتخذت السلطات العراقية إبان حكم الرئيس السابق صدام حسين إجراءات للحد من ممارسة طقوس الشيعة الذين يشكلون الأكثرية السكانية في البلاد، لكن تلك الإجراءات لم تكن الأولى من نوعها في التاريخ، فقد تعرضت الطقوس الشيعية لمواقف مشابهة في فترات تاريخية سابقة.
يشير المؤرخون الشيعة إلى أن شعائر عاشوراء مُنعت في بعض الحواضر إبان حكم المماليك الذين حكموا العراق بين منتصف القرن الثامن عشر إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر، لكنها استؤنفت لاحقاً خلال الحكم العثماني عندما وقعت الأستانة وثيقة سلام مع الإيرانيين إثر انتهاء حكم المماليك.
كما جرت مساعٍ أخرى للسيطرة عليها في فترات أخرى من تاريخ العراق الحديث وخصوصاً في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، أي إبان الحكم الملكي.
يُعتبر الدافع السياسي من أهم العوامل التي تدفع السلطات إلى اتخاذ إجراءات لتقييد تلك التظاهرات، ومنع تحولها إلى أداة ضغط سياسية، كونها مناسبة للتعبير عن الاعتراض أو الرفض أو الاحتجاج، وقد تشكل حافزاً للانتفاضات العشائرية والمناطقية.
ما بعد الاحتلال
لكن ما شهده العراق عام 2003 مع انهيار نظام صدام حسين إثر دخول القوات الأمريكية وحلفائها البلاد، غيّر من الخارطة السياسية، إذ حصل الشيعة على تمثيل بارز في الحكومة، بعد أن كانوا في الظل أثناء الحكومات التي توصف بأنها “سنية” في الفترات التي سبقت ذلك التاريخ.
بعد إجراء انتخابات برلمانية في العراق، هيمنت الأحزاب الإسلامية الشيعية على الحكومة بمشاركة قوى سنية وكردية حسب الترتيبات التي أفرزتها مرحلة الاحتلال وما بعده، ومنذ ذلك الحين، أصبحت ممارسة طقوس عاشوراء وغيرها من المناسبات الدينية تُجرى بحرية وأحياناً دون قيود، لكن تلك التجمعات أضحت هدفاً سهلاً للهجمات الانتحارية والتفجيرات التي نفذتها جماعات متشددة أثناء وجود القوات الأمريكية في البلاد وبعد خروجها في نهاية عام 2011.

مواضيع مشابهة: بعد 3 أشهر من الغموض.. تحليل الـDNA يكشف سر العثور على رضيع في مقابر قنا