البشندي.. كيف تحولت قرية منسية في الصحراء إلى رمز عالمي في فنون صناعة السجاد

الوادي الجديد – محمد الباريسي:

البشندي.. كيف تحولت قرية منسية في الصحراء إلى رمز عالمي في فنون صناعة السجاد
البشندي.. كيف تحولت قرية منسية في الصحراء إلى رمز عالمي في فنون صناعة السجاد

في ليلة باردة من عام 1979، شهدت قرية “البشندي” التابعة لمركز بلاط بمحافظة الوادي الجديد واحدة من أكثر الليالي حزنًا في تاريخها، حيث فقدت إحدى الأسر عائلها الوحيد، لكن الفاجعة لم تكن فقط في الفقد، بل في عجز الأسرة عن توفير كفن لوداعه الأخير، حينها هبّ سكان القرية الفقيرة في حملة تبرع بسيطة، ساهم فيها كل منزل بخمسة قروش، لتوديع الرجل ودفنه بكرامة، لكن تلك الليلة الحزينة لم تمرّ كسابقاتها، إذ تحولت بفضل إرادة سكانها إلى لحظة فارقة، كانت الشرارة الأولى لميلاد مشروع غيّر ملامح القرية لعقود قادمة.

من فكرة بسيطة إلى مشروع وطني

هذا ما أكده محمود عبد ربه، الخبير في التراث والتاريخ الواحاتي بالوادي الجديد، قائلاً إنه بعد عامين فقط، وتحديدًا في سبتمبر 1982، وصلت إلى القرية بعثة من كلية الفنون التطبيقية بالقاهرة برفقة الدكتور حماد عبد الله حماد، المدرس بالكلية، حيث بدأت لقاءات أولية مع عدد من شباب القرية المتطوعين لمناقشة إمكانية إدخال صناعة الكليم اليدوي باستخدام خامات البيئة، مثل الصوف، وفي أكتوبر 1983، عاد الدكتور حماد إلى القرية برفقة وفد من أكثر من عشرة أساتذة أبدوا رغبتهم في دعم الفكرة بشكل تطوعي، والتقوا بمؤسسي جمعية تنمية المجتمع وعلى رأسهم السيد عبد السلام سنوسي حمودة، الذي سيصبح لاحقًا رمزًا لنهضة القرية، إلى جانب مجموعة من الأهالي المتحمسين، جرى تأسيس الجمعية على نفقة سكان القرية، الذين أعادوا تجربة الكفن وجمعوا خمسة قروش من كل بيت لتأسيس مقر صغير للمشروع.

أنوال وصوف وتدريب

قال عبد ربه إنه في يناير 1984، وصلت من القاهرة أولى المعدات: ثلاث أنوال، دولاب تدوير، و300 كيلوجرام من الصوف والقطن، تبرع بها الدكتور حماد، وبدأ الأطفال والشباب في تعلّم فنون الحياكة والتصنيع اليدوي، وبعد أقل من شهر، وتحديدًا في فبراير 1984، زار محافظ الوادي الجديد آنذاك، الدكتور فاروق التلاوي، المشروع وقدّم دفعة معنوية كبيرة، شجعت الجمعية على التوسع، وفي يونيو من العام نفسه، بدأت أولى بشائر الإنتاج، وجرى بيع أولى القطع، وفي يوليو، ظهرت تصميمات فنية متميزة، ليتوج هذا النجاح بإقامة أول معرض رسمي للمنتجات في أكتوبر 1984 داخل نقابة المهندسين بالخارجة، وقد جرى توثيقه تلفزيونيًا ونال إعجابًا واسعًا.

الانطلاقة إلى العالمية

من نقابة المهندسين إلى متاحف باريس وروما والولايات المتحدة، شق كليم البشندي طريقه نحو العالمية، حيث جرى اقتناء بعض القطع كمقتنيات دائمة في هذه المتاحف، وبدأت القرية تجني ثمار سنوات من التخطيط والإصرار، وأكد عبد ربه لـ”نبأ العرب” أن الدعم لم يقتصر على الجهود الأهلية فقط، بل تلقت الجمعية دعمًا من السفارة الكندية بمنحة غير مستردة لتوسعة قسم السجاد، ثم منحة أخرى لمشروع الغزل، وثالثة من السفارة الألمانية لمشروع الصباغة.

قرية التاريخ: من آثار رومانية إلى صوف عالمي

قرية البشندي ليست مجرد نموذج تنموي، بل موقع أثري وسياحي فريد، يقول الخبير الآثري محمد إبراهيم، مدير آثار الوادي الجديد في تصريحات خاصة لـ”نبأ العرب”، إن “البشندي” تضم مقابر تعود للعصر الروماني، منها مقبرة كيتانوس التي ترجع للقرن الأول الميلادي، وتحمل نقوشًا جنائزية عن التحنيط والحساب في العالم الآخر، إضافة إلى مناظر نادرة لتقديم القرابين للآلهة المصرية القديمة مثل أوزير وإيزيس، وأكد إبراهيم أن القرية تضم مقبرة إسلامية للشيخ البشندي، الذي كان شيخًا للقرية في العصر العثماني، واستخدم أحجارًا من معبد فرعوني لبناء مقامه، الذي لا يزال قائمًا حتى الآن، ويضيف مدير آثار الوادي الجديد أن بالقرية مصاطب فرعونية، ومقابر من الأسرة السادسة تعود لعام 2420 قبل الميلاد، ما يجعلها من أغنى مناطق الوادي الجديد أثرًا وتاريخًا.

من الطوب اللبن إلى طراز عالمي

يصف عبد السلام سنوسي، مدير جمعية تنمية المجتمع المحلي بالقرية صاحبة أشهر مشروع صناعة السجاد والكليم، “البشندي” بأنها قرية مصرية بطراز فرعوني فريد، حيث الشوارع مفروشة بالرمال الصفراء والمنازل مبنية بالطوب اللبن، مما يمنحها طابعًا بصريًا سياحيًا خاصًا، ويؤكد سنوسي لـ”نبأ العرب” أن القرية تُعد الوحيدة التي نجحت في تصدير صناعات يدوية مثل الكليم والسجاد البسيط إلى الأسواق الأوروبية، بل وفرضت اسمها كعلامة مميزة، يتسابق السياح على اقتناء منتجاتها المصنوعة من خامات طبيعية.

منظومة إنتاج متكاملة ضد البطالة

يشير سنوسي إلى أن جمعية تنمية المجتمع لم تكتفِ بإنتاج الكليم، بل أقامت مشروعًا متكاملًا يشمل شراء الصوف من مربي الماشية، وتحويله إلى منتجات نهائية مثل الكليم والسجاد والبطاطين، ما ساهم في القضاء على البطالة، وخلق مئات من فرص العمل للشباب والفتيات، وأنشأت الجمعية أيضًا مزارع مواشي تُوزع ألبانها يوميًا على الفقراء، إلى جانب مشروع ضخم لتربية الأغنام، ومطحن لطحن الغلال، وآخر للأرز، ومحطة صرف صحي، ومحطة لتنقية مياه الشرب، ويتابع: “تحولت القرية إلى منظومة إنتاج متكاملة، تلبي احتياجات السكان وتوفر دخلًا كريمًا دون الاعتماد على وظائف حكومية.”

من غرفة خياطة إلى 20 مشروعًا

في حديثه لـ”نبأ العرب”، يؤكد عبد السلام سنوسي أن مشروع الجمعية بدأ بغرفة واحدة لتدريب الفتيات على الخياطة، واليوم تضم أكثر من 20 مشروعًا إنتاجيًا تشمل السجاد والكليم والغزل، ومركز تدريب بيئي، ومشروعات لتدوير القمامة والتشجير، وتربية الأبقار والأغنام، ومزرعة للخضروات والفاكهة، ومشروعات لتوزيع الألبان وتحسين سلالات المواشي، كما أطلقت الجمعية أول شركة مساهمة من أهالي القرية لتنفيذ مشروع زراعي على مساحة 200 فدان، يستفيد منه 40 شابًا من أبناء القرية، ضمن مبادرة “الظهير الزراعي” بدعم مباشر من اللواء الدكتور محمد الزملوط محافظ الوادي الجديد.

دعم حكومي وثقة عالمية

قال سنوسي لـ”نبأ العرب” إن المشروع حظي بدعم كبير من محافظ الوادي الجديد، الذي يتابع باستمرار سير العمل ويوجه بتسهيل العقبات، ويساهم في الترويج لمنتجات الجمعية في المعارض الدولية والمحلية، ويختتم سنوسي بقوله: “نحن قرية صغيرة نعم، لكننا نملك روحًا عظيمة، ما حققناه ليس مجرد صناعة أو تجارة، بل قصة كفاح أبطالها نساء قبل الرجال، وشباب أرادوا الحياة بكرامة وإبداع.”