الإسماعيلية- أميرة يوسف:

شوف كمان: أكرم ألفي يكشف العلاقة بين مستقبل وطن والجبهة الوطنية ويحث على الابتعاد عن تكرار أخطاء الماضي
على ضفاف قناة السويس، وفي قلب دلتا الشرق، تقف الإسماعيلية مدينةً لا تكتفي بتاريخها الوطني الحافل بالبطولات، بل تفخر أيضًا بتراث زراعي غني تُجسده أشجار المانجو الممتدة على مد البصر، والتي تحوّلت من مجرد ثمرة وافدة إلى رمز للمحافظة وهويتها الزراعية والاقتصادية.
في أربعينيات القرن الماضي، دخلت أولى شتلات المانجو إلى أراضي الإسماعيلية، قادمة من الهند عبر تجار مصريين وسودانيين، لم تكن المانجو آنذاك مألوفة، بل كانت تُزرع على استحياء في حدائق ضيقة تابعة للباشوات والإنجليز، كجزء من تجارب زراعية ترفيهية.
لكن المناخ المعتدل والتربة الرملية الخصبة، إلى جانب مياه ترعة الإسماعيلية، احتضنت هذه الشتلات برقة، لتبدأ بعدها فصول حكاية لا تُنسى، نمت الأشجار وبدأت تثمر، ولفتت أنظار المزارعين، الذين رأوا فيها وعدًا بمحصول جديد قد يغيّر واقعهم.
مع دخول الستينيات، تحوّلت زراعة المانجو من تجارب فردية إلى نشاط زراعي منظم، وبرزت قرى مثل “أبو عطوة”، و”عين غصين”، و”الواصفية”، و”كسفريت”، و”أبو خليفة” كمراكز رئيسية للإنتاج، حيث أثبتت الأشجار نجاحًا باهرًا في التربة والمناخ المحليين، خاصة في أصناف مثل العويس، الصديقة، التيمور.
كان موسم جني المانجو أشبه بعيد غير معلن، تُجمَع الثمار في جو من البهجة، تُحمّل على عربات الكارو، وتُنقل إلى الأسواق المحلية أو إلى القاهرة ومدن القناة، لتكون الإسماعيلية قد بدأت أولى خطواتها نحو الصدارة في هذا المجال.
في الثمانينيات، قفز الإنتاج كماً ونوعًا، ظهرت أصناف جديدة مثل الكيت، والناعومي، والسنسيشن، والسكري، وبدأت المحافظة تحجز مكانتها كمصدر رئيسي لأجود أنواع المانجو في مصر.
وبحلول التسعينيات، أصبح اسم “مانجو الإسماعيلية” يحمل قيمة تجارية واضحة في الأسواق، يُذكر بفخر في محال الفاكهة الراقية بالقاهرة والإسكندرية، ويُعلن عنه على اللافتات لجذب الزبائن، وهو ما عزز من شهرة المانجو الإسماعيلاوي وجعلها سلعة متميزة لا تنافسها غيرها.
وفي أغسطس 2022 بدأت محافظة الإسماعيلية بتنظيم مهرجان سنوي للمانجو، احتفاءً بهذه الثمرة التي أصبحت جزءًا من وجدان المدينة وهويتها الزراعية، يقام المهرجان سنويًا بالتعاون مع وزارتي الزراعة والثقافة، ويشارك فيه مزارعون من مختلف القرى لعرض أفضل ما أنتجته أراضيهم.
تحوّل المهرجان إلى نافذة للترويج السياحي والزراعي معًا، كما أصبح منصة لتشجيع التصدير وتبادل الخبرات بين المنتجين والمستوردين، إلى جانب كونه احتفالًا شعبيًا ترفيهيًا ينتظره الأهالي والزوار كل عام.
بمجرد أن تقترب من مدخل محافظة الإسماعيلية، تستقبلك رائحة المانجو الفواحة التي تعبق في الهواء، قادمة من مئات المزارع التي تزيّن جانبي الطريق، تمتد الأشجار في صفوف طويلة، تتدلى منها الثمار الناضجة بألوانها الصفراء والبرتقالية والخضراء، في مشهد يأسرك قبل أن تصل إلى قلب المدينة.
المزارع في الإسماعيلية ليست مجرد أراضٍ زراعية، بل لوحات طبيعية تشهد على علاقة عميقة بين الإنسان والأرض، وعلى امتداد القرى والمراكز، تحوّلت أشجار المانجو إلى ملامح ثابتة في الذاكرة البصرية والوجدانية لكل من يزور المحافظة أو يمر بها.
في إحدى مزارع، يقف المزارع أحمد شجيع يتأمل ثماره قائلاً: “الموسم بدأ من 3 يوليو وهيستمر حوالي 60 يوم، لكن السنة دي المحصول أقل من السنة اللي فاتت، بسبب التغيرات المناخية اللي أثرت على الأصناف البلدية، زي السكري والزبدة والعويس”
ورغم التحديات، يؤكد شجيع أن المزارعين لا يقفون مكتوفي الأيدي: “بقينا أكثر وعي بمكافحة الأمراض اللي بتهاجم المحصول، لكن لازم الدولة تفكر في زراعة أشجار الجزورين حوالين المزارع، علشان تحمي الأشجار من موجات الحرارة والرياح اللي زادت بشكل ملحوظ”
يشير أيضًا إلى تحول ملحوظ في نوعية المانجو بالأسواق، قائلاً: “بدأنا نلاحظ انتشار الأصناف الأجنبية زي الكيت والهايدي والنعومي والكرمسون، صحيح هي بتتحمل الحر أكتر، لكن طعمها وريحِتها مش زي البلدي اللي الناس بتحبه، الأصناف دي بتروح للمصانع، لكن الزبون المصري عايز مانجو تتاكل وتتخزن، وكمان التصدير بيطلب البلدي أكتر”
ويضيف بفخر: “الإسماعيلية فيها أكتر من 138 صنف مانجو، وعلى مستوى المساحة إحنا بنتكلم عن 120 ألف فدان، والتصدير في زيادة خاصة لدول الخليج وشمال أوروبا، وهنفتح أسواق جديدة من خلال الملتقى التصديري اللي هيتعمل على هامش المهرجان”
أما عن الأسعار، فيقول: “الأسعار السنة دي بتبدأ من 50 جنيه، وده بيرجع لارتفاع التكلفة، بس الناس لسه بتقبل على مانجو الإسماعيلية لأنها ليها اسم وسمعة”
تستعد الإسماعيلية حاليًا لانطلاق النسخة الثالثة من مهرجان المانجو، يوم 8 أغسطس المقبل، بتوجيهات من اللواء أكرم محمد جلال، محافظ الإسماعيلية، الذي شدد على ضرورة خروج المهرجان بشكل يليق بمكانة المحافظة.
وفي هذا الإطار، يعقد المهندس أحمد عصام الدين، نائب المحافظ، اجتماعات دورية مع ممثلي الغرفة التجارية، ورابطة منتجي المانجو، وشعبتي التصدير والخضر والفاكهة، بالإضافة إلى الشركة المنظمة للمهرجان، لمناقشة خطة الإعداد والتنظيم.
من جهته، أكد أسامة فهمي، منسق المهرجان، أن الاستعدادات تسير على قدم وساق، وقال: “المهرجان هيكون بمشاركة جماهيرية ودبلوماسية كبيرة، وهيضم فعاليات ترويجية وتسويقية لمانجو الإسماعيلية، اللي تعتبر واحدة من أهم المحاصيل الزراعية في مصر”
وأوضح أن المهرجان لا يقتصر فقط على الجانب الزراعي، بل يُعد أيضًا حدثًا ترفيهيًا وسياحيًا يسعى لإدخال البهجة على الأهالي، والترويج لوجه الإسماعيلية الحضاري والراقي.
ومع انطلاق موسم الحصاد، يتحوّل صباح الإسماعيلية إلى ما يشبه الاحتفال الشعبي، في سوق المستقبل يُقام مزاد يومي لبيع ثمار المانجو على أنغام الطبول والمزمار البلدي، في مشهد يضج بالحياة والألوان.
يبدأ المزاد في سوق المستقبل بعد صلاة العصر ويستمر حتى ساعات الليل، في مشهد يومي مميز يجذب التجار والمزارعين من مختلف أنحاء محافظة الإسماعيلية والمحافظات المجاورة، وسط أجواء مفعمة بالحيوية، تبدأ المنافسة على شراء أفضل أصناف المانجو، حيث تُعرض الثمار على الأرض أو في صناديق بلاستيكية، وتخضع للفحص الدقيق من قبل التجار، الذين يتمتعون بخبرة طويلة في تقييم الجودة.
مقال مقترح: ترامب يطلب الاحتفاظ بصورة الطبقي المحوري بعد محاولة اغتياله في بنسلفانيا
تتعالى أصوات الباعة بالمزايدات، وتُعلن الأسعار على أنغام الطبول ونغمات المزمار البلدي، ما يضفي على السوق أجواء كرنفالية فريدة، يقف التجار مصطفين أمام كميات ضخمة من الصناديق، وكل منهم يترقب لحظة الفوز بأجود محصول.
في ساحة السوق، تبدأ المزادات الحقيقية: “سكري أبيض… ٣٠، ٣٥، ٤٠… خمسين جنيه للكرتونة!”، كلما ارتفع السعر، دقّت الطبول بقوة، وتعالت الهتافات فور إتمام الصفقة، إيذانًا بنجاح البيع
تمر أيدي التجار على الثمار بخفة لتقييم نضجها، وتتحرك أعينهم بسرعة بين الأصناف المعروضة: من السكري والعويس إلى التيمور والنعومي، عربات نصف نقل تقف على جانبي السوق في انتظار تحميل الكراتين، بعضها يتجه إلى أسواق القاهرة والدلتا، والبعض الآخر يُجهّز لشحنات التصدير إلى الخليج وأوروبا
وسط هذه الأجواء، يقول أحمد سفن، أحد كبار التجار في سوق المستقبل: “كل محافظات مصر بتاخد مانجا إسماعيلاوي، من إسكندرية لأسوان، ورغم إن الإنتاج أقل السنة دي بنسبة ٤٠٪ بسبب المناخ، لكن الجودة زي ما هي، أكثر صنف عليه طلب هو السكري الأبيض، والسنة دي الأسعار ارتفعت بنسبة ٢٥٪ عن السنة اللي فاتت، بنبدأ من ٣٠ جنيه لحد ٥٠ للكرتونة، حسب الجودة، وكل يوم المزايدة بتحكم، الأسعار بتتحدد حسب حجم الإنتاج والعرض والطلب”
في الإسماعيلية، المانجو ليست مجرد فاكهة موسمية، بل هي جزء من الهوية، وتاريخ من الكفاح، وعلاقة خاصة بين الفلاح وأرضه، وبين الأشجار والذاكرة، إنها الذهب الأخضر الذي ينمو تحت شمس القناة، ويُصدّر للعالم طعمًا ورائحة لا تُنسى.
مقال له علاقة: وزير الدفاع الألماني يؤكد لإيران أن الوقت لا يزال مناسبًا للتفاوض