(بي بي سي).

من نفس التصنيف: طقس الجمعة يتسم بشدة الحرارة وارتفاع الأمواج.. تعرف على التفاصيل الكاملة من الأرصاد الجوية
في أقل من 24 ساعة، صدرت رسالتان متناقضتان من بيروت حول أحد أكثر الملفات حساسية في لبنان، وهو سلاح حزب الله.
في ليلة الثلاثاء، وخلال احتفال تأبيني في جنوب العاصمة بيروت، أكد الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم أن سلاح المقاومة “ليس موضع مساومة”، مشدداً على أن الحديث عن نزع هذا السلاح “في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي يعني عملياً تسليمه إلى إسرائيل”، وأوضح أن الحزب “مستعد لمناقشة موقع هذا السلاح في منظومة وطنية”، ولكن بعد وقف العدوان وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.
في صباح اليوم التالي، جاء الرد الرسمي من وزارة الدفاع، حيث دعا الرئيس اللبناني جوزاف عون، في كلمته بمناسبة عيد الجيش، إلى “حصرية السلاح بيد الجيش والقوى الأمنية، على كامل الأراضي اللبنانية”، معتبراً أن ذلك شرط لاستعادة السيادة وبناء الدولة.
كما أعلن أن الحكومة، بالتعاون مع المجلس الأعلى للدفاع، تعمل على خارطة طريق لتوحيد قرار السلاح في يد الدولة، بالتوازي مع تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار المدعوم دولياً، والذي لا تزال إسرائيل ولبنان يتبادلان الاتهامات بشأن خرقه.
في ظل هذا التباين العلني بين رؤية حزب الله للدور الدفاعي لسلاحه، وتمسك الدولة بمبدأ احتكار القوة، تعود المعضلة القديمة إلى الواجهة: هل يمكن التوصل إلى تسوية داخلية تحصّن لبنان من دون تفكيك معادلة الردع؟ أم أن السلاح سيبقى عقدة المرحلة المقبلة في بلد منهك يبحث عن استقرار؟
ما بعد الاتفاق
في السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، حاول آلاف النازحين اللبنانيين، الذين كانوا يعيشون في مختلف أنحاء البلاد، العودة إلى منازلهم في جنوب لبنان.
ساروا في قوافل، وأنشدوا الأغاني الثورية، ولوحوا بفخر برايات حزب الله الصفراء، وتبين للكثير منهم أنه بعد أكثر من عام من الحرب، لم يعد هناك منازل ليعودوا إليها، حزنوا على ما فقدوه، وبين أنقاض المباني المدمرة، وضعوا ملصقات تذكارية لزعيم الحزب الراحل، حسن نصر الله.
مثل ذلك التاريخ نهاية المهلة لانسحاب القوات الإسرائيلية، وكان جزءاً من اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بوساطة أمريكية وفرنسية، حيث تطلب ذلك سحب حزب الله لأسلحته ومقاتليه من جنوبي لبنان.
تضمن الاتفاق كذلك نشر الآلاف من الجنود اللبنانيين في المنطقة، لكن إسرائيل قالت إن لبنان لم يطبق الاتفاق بشكل كامل، ونتيجة لذلك، لم تنسحب جميع القوات الإسرائيلية، وفي المقابل اتهم لبنان إسرائيل بالمماطلة.
لم يكن من المفاجئ أن لا يخلو الأمر من أعمال العنف، ففي بعض المناطق، فتح الجنود الإسرائيليون نيرانهم، وقُتل 24 لبنانياً بينهم جندي، لكن بالنسبة لحزب الله، الذي كان لعقود القوة المهيمنة في جنوب لبنان، كانت تلك المناسبة بمثابة الفرصة لإظهار القوة بعد تلقيه ضربة قوية خلال الصراع مع إسرائيل، لكن هل يمكن للحزب النجاة من موجة التغييرات في لبنان وإعادة تشكيل القوى في الشرق الأوسط؟
القدرة على شل الدولة
على مدار سنوات، عزز حزب الله – الحزب الشيعي والسياسي والاجتماعي – موقعه كأقوى حزب في لبنان، وبنى، مدعوماً من إيران، قوة عسكرية يرى البعض أنها أصبحت أكبر من الجيش اللبناني، وكان استخدام العنف خياراً على الدوام.
شوف كمان: تعليق مؤسسة غزة الإنسانية على استقالة مديرها.. ماذا قالت؟
الكتلة القوية في مجلس النواب عنت أنه لم يكن ممكناً اتخاذ أي قرار مهم دون موافقة الحزب، بينما منحه النظام السياسي الممزق في لبنان تمثيلاً في الحكومة، باختصار، كان لدى حزب الله القدرة على شل الدولة، وهو ما فعله في مرات عدة.
بدأ الصراع الأخير في أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين فتح حزب الله جبهة ثانية ضد إسرائيل، عندما شنت الأخيرة حرباً في غزة رداً على هجوم حماس.
تصاعدت الأعمال العدائية بشكل كبير في سبتمبر/أيلول الماضي، حين اخترقت إسرائيل الحزب بطرق لا يمكن تخيلها، حيث انفجرت أجهزة البيجر التي كان يحملها أعضاؤه، ثم انفجرت أجهزة الاتصال اللاسلكي.
أسفرت حملة جوية لا هوادة فيها وغزو لاحق لجنوب لبنان عن مقتل أكثر من 4 آلاف شخص، بينهم العديد من المدنيين، وتركت المناطق ذات الوجود الكبير للمسلمين الشيعة، الذين يشكلون الكتلة الداعمة لحزب الله، في حالة خراب، وألحقت أضراراً جسيمة بترسانة الحزب.
العديد من قادة الحزب تم اغتيالهم، وأبرزهم نصر الله، الذي كان قد وجه الحزب لأكثر من ثلاثة عقود، واعترف خلفه نعيم قاسم، الرجل الثاني السابق في الحزب، الذي لا يملك القدر ذاته من الكاريزما والنفوذ، أنهم تكبدوا خسارات مؤلمة.
اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في نوفمبر/تشرين الأول الماضي كان بشكل أساسي استسلاماً من قبل الحزب، الذي تصنفه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى منظمة إرهابية.
وفي ظل الواقع الجديد، انتخب مجلس النواب اللبناني أخيراً في الشهر الماضي رئيساً جديداً للبلاد، قائد الجيش السابق جوزيف عون، الذي كان المفضل لدى الأمريكيين، بعد أكثر من عامين من الجمود الذي نسبه النقاد لحزب الله، وبعد أن ضعف الحزب، لم يتمكن من عرقلة العملية كما فعل في الماضي.
وفي مؤشر آخر على تراجع مكانته، عيّن عون بعد ذلك نواف سلام رئيساً للوزراء، الذي كان يشغل منصب رئيس محكمة العدل الدولية، وهو شخص غير متحالف مع الحزب.
ويبدو أن حزب الله الآن يركز على أولويات أخرى، قاعدته، فقد أخبر الحزب أتباعه أن الخسارة في الحرب انتصار، لكن العديدين يعرفون أن الحقيقة غير ذلك، مجتمعاتهم دُمّرت، وتُقدّر قيمة الأضرار في المباني بأكثر من ثلاثة مليارات دولار، وفقاً للبنك الدولي.
في بلد باقتصاد منهار، لا أحد يعرف من سيساعد – إذا كان هناك من سيساعد، فالدعم الدولي رُبط باتخاذ الحكومة إجراءات تحد من سلطة حزب الله.
دفع الحزب تعويضات لبعض العائلات، مثلما فعل بعد حرب عام 2006، لكن هناك بالفعل مؤشرات على السخط.
يقول نيكولاس بلانفورد، وهو زميل كبير غير مقيم في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي، ويسكن في بيروت، ومؤلف كتاب “محاربو الله: داخل كفاح حزب الله الذي دام ثلاثين عاماً ضد إسرائيل”، “إذا كان الناس لا يزالون يسكنون داخل الخيام بعد مرور ستة أشهر، أو فوق ركام منازلهم، فقد يبدأون في توجيه اللوم لحزب الله بدلاً من الحكومة أو إسرائيل، لذلك السبب، يبذلون قصارى وسعهم الآن لمحاولة منع ذلك بشكل مسبق”
ويضيف: “في السياق الحالي، يمكنك صد حزب الله قليلاً”
تهديد ضمني
لكن أي إجراء ضد حزب الله ينطوي على مخاطر.
في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، بعد ساعات من محاولة الناس العودة إلى منازلهم في الجنوب، قاد شبّان دراجات نارية عبر مناطق غير شيعية في بيروت وأماكن أخرى ليلاً، وأطلقوا الأبواق حاملين رايات حزب الله، واجههم السكان في بعض المناطق، وفي بلد تتعمق فيه الانقسامات الطائفية، ولا يزال الكثيرون فيه يتذكرون أيام الحرب الأهلية 1975-1990، اعتُبرت تلك المسيرات تكتيكاً للترهيب.
وقال بلانفورد إن حزب الله لديه “تهديد ضمني بالعنف” بسبب جناحه العسكري.
وأضاف: “إذا دفعتهم بقوة شديدة، سيردون عليك بقوة شديدة”
وقال مسؤول دبلوماسي غربي، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لأسباب تتعلق بمحادثات خاصة، “كنا نخبر الأطراف هنا [المعارضة] وفي دول أخرى، إذا حاصرت حزب الله فمن المحتمل أن تأتي النتائج عكسية، وخطر العنف هو احتمال حقيقي”.
ومع ذلك، فُتح فصل جديد في لبنان، البلد المنهك من الفساد وسوء إدارة الحكومة والعنف الذي يبدو بلا نهاية، وهي مجموعة من العوامل التي أسفرت عن دولة عاجزة.
في خطابه الافتتاحي أمام مجلس النواب اللبناني، وعد عون بإصلاحات طموحة وطويلة الأمد مع العلم أنه بدون تغييرات جذرية، لا يمكن إنقاذ لبنان، تعهد بإعادة بناء المؤسسات العامة، وإنعاش الاقتصاد، والأهم من ذلك، جعل الجيش اللبناني الجهة الوحيدة التي تحمل السلاح في البلاد، لم يذكر عون حزب الله بالاسم، لكن هذا ما كان يقصده، صفق المجلس له بحماس، بينما راقب نواب حزب الله بصمت.
قضية إقليمية
لكن القرار بشأن وجود حزب الله كقوة عسكرية سيُتخذ على الأرجح بعيداً عن لبنان – في إيران، على مدى عقود، استثمرت طهران، من خلال الأسلحة والأموال، في تحالف إقليمي تسمّيه “محور المقاومة”، شكل حلقة نار حول إسرائيل، وكان حزب الله هو اللاعب الرئيسي فيه، مع آلاف المقاتلين المدربين جيداً والمحنكين في المعارك، وترسانة ضخمة تشمل صواريخ موجهة بعيدة المدى على أعتاب إسرائيل، عملت المجموعة كوسيلة ردع ضد أي هجوم إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية.
في الوقت الراهن زال الردع، وفي حال رغبت إيران في إعادة بنائه، فلن يكون ذلك سهلاً.
سقوط نظام الأسد في سوريا في ديسمبر/كانون الأول الماضي – جزئياً بسبب نكسات حزب الله – قد قطع الممر البري الذي كانت تستخدمه طهران لتسليح وتمويل الحزب، وتقول إسرائيل، التي جمعت معلومات استخباراتية واسعة عن حزب الله، إنها ستواصل شن هجمات عليه لمنع محاولاته لإعادة التسلح.
وقال لي بلانفورد إن “إيران وحدها يمكنها حقاً الإجابة على الأسئلة الأساسية” حول حزب الله.
وأضاف “هناك احتمال أن تقرر إيران أو حزب الله التفكير بشكل مختلف، مثل التخلي عن السلاح أو أن يصبح حزب الله حزباً سياسياً فقط وحركة اجتماعية”.
لكنه في النهاية يرى أن “هذا قرار إيران، وليس بيد حزب الله”.
سألت مصدراً مطلعاً على الشؤون الداخلية لحزب الله عمّا إذا كان من الواقعي الحديث عن نزع سلاحه، قال المصدر إن القضية يمكن أن تكون جزءاً من “مفاوضات إقليمية أكبر”، في تلميح إلى مؤشرات على استعداد إيران للتوصل إلى اتفاق مع الغرب بشأن برنامجها النووي.
وأضاف المصدر: “هناك فرق بين التخلي عن الأسلحة تماماً أو العمل في إطار مع الدولة بشأن استخدامها، وهو احتمال آخر”
يتعرض قادة لبنان الجدد لضغط للتحرك بسرعة، إذ يرى الحلفاء الأجانب أن توازن القوى المُعاد تشكيله في الشرق الأوسط يمثل فرصة لإضعاف نفوذ إيران بشكل أكبر، بينما يتوق اللبنانيون إلى بعض الاستقرار والشعور بأن القوانين تنطبق على الجميع.
الناس في لبنان لا يحبون أن يوصفوا بأنهم “مرنون”، نظراً لقدرتهم على الاستمرار وسط الفوضى، قال أحد السكان المحبطين في منطقة مسيحية في بيروت العام الماضي: “كل ما نريده هو العيش في بلد طبيعي”
كما أنه، وبعد كل هذه المعاناة، قد يتساءل حتى مؤيدو حزب الله عن الدور الذي يجب أن يؤديه الحزب.
ومن غير المرجح أن يعود حزب الله إلى ما كان عليه قبل الحرب، وقد يصبح نزع سلاحه “أمراً وارداً، وليس كما كان في السابق”.