من “ذهب أسوان” إلى جداريات مصر.. رحلة زوجين في رسم حياة أهل البلد

مارينا ميلاد:

من “ذهب أسوان” إلى جداريات مصر.. رحلة زوجين في رسم حياة أهل البلد
من “ذهب أسوان” إلى جداريات مصر.. رحلة زوجين في رسم حياة أهل البلد

في أجواء حارة، تقف “مها” (33 عامًا) مع زوجها على رافعة خشبية مرتبطة بعدة حبال، على ارتفاع يصل إلى 20 مترًا، يعملان لمدة تقارب 8 ساعات يوميًا، وفي هذه المساحة، يتعين عليهما رسم لوحتهما لتطل على طريق السادات، أحد أهم الطرق في أسوان، الذي يؤدي إلى المطار.

تلك اللوحة التي لا تزال غير مكتملة، ستكون لطفلة نوبية، يحيط بها النيل والجبال والمراكب والأراضي الخضراء، لتعكس ملامح المدينة، وهي الفكرة نفسها التي نفذها الزوجان في ثلاثة عقارات على الطريق خلال الأشهر الثلاثة الماضية، تحت عنوان مشروع “ذهب أسوان”.

هذا المشروع الذي انتشر بسرعة دفع وزير الثقافة لاتخاذ قرار بتعميم التجربة في عدد من المحافظات، خاصة السياحية منها، ليكون لكل محافظة طابعها وهويتها وتراثها الخاص على جدران مبانيها، كما يقول.

لكن قصة “مها” وزوجها علي عبدالفتاح بدأت منذ حوالي 15 عامًا، حين انتشرت الرسوم على الجداريات بعد ثورة 25 يناير 2011، وكانت أغلبها سياسية أو تتعلق بالألتراس، بينما كان الزوجان يدرسان في كلية الفنون الجميلة، وقررا الانضمام إلى هذا الاتجاه لكن بأسلوبهما الخاص، فتقول: “فكرنا في رسم أشياء تعبر عن هويتنا، بعيدًا عن السياسة”.

استمر الزوجان في مشروعهما، حيث نسقا مع المحافظة للحصول على التصاريح اللازمة، وانطلقا من جدارية واحدة إلى أخرى، حتى أصبح لديهما مئات الرسوم التي تعبر عن الثقافة والتاريخ والمجتمع، مما تحول تدريجيًا إلى مصدر دخل لهما، وتصف “مها” هذه الرحلة كأنها “سلم، صعدت مع زوجها درجاته واحدة تلو الأخرى حتى أصبحت فكرتهما بهذا الشكل”.

وبعد أن كان البعض يفسد لوحاتهما بـ”شخبطة”، أصبحوا يعرفون من هما، كما تحكي “مها”، ففي إحدى المرات، رسموا جدارية ضخمة عند مدخل المدينة، وقفا أمامها منذ الفجر حتى الليل لرسم 300 شخص من طبقات اجتماعية مختلفة، وكان الهدف “أن يعرف الناس ما يفعلانه، وأنهم يرسمونهم، وليس أشخاصًا مشهورين”.

ومثلما تختار “مها” خاماتها وألوانها بعناية لتكون قادرة على الثبات ومقاومة الأتربة ودرجات الحرارة العالية، تختار أيضًا قصصها بتمهل، فهي “تريد أن تحكي كل جدارية قصة، وتحمل معنى، حتى لو كان ذلك من خلال الوجوه فقط، فإما تدعو الناس للعمل أو التفاؤل أو معرفة حضارتهم”، وهذا ما تجلى في جداريتها بشارع كورنيش النيل القديم، حيث رسمت وجوهًا لـ 10 أشخاص أسوانيين من فئات عمرية مختلفة، وتضيف: “هؤلاء هم ذهب أسوان الحقيقي، الذين يأتون إليهم السياح”.

وقد جاء نحو 15.78 مليون سائح إلى مصر خلال عام 2024، وفقًا لوزير السياحة والآثار، لكن الهدف هو مضاعفة هذا الرقم سنويًا.

وبحلول العام الماضي، رسم “مها” و”علي” فوق أعلى خزان مياه الشرب بالمدينة، على ارتفاع يصل إلى 50 مترًا، والذي يصور بشكل دائري أهمية النيل والزراعة، تحت عنوان مشروع “رمز النيل”، حتى وصلا إلى مشروعهما الأخير “ذهب أسوان”، الذي وصفته وزارة الثقافة بأنه “منذ مئات السنين ارتبطت أسوان بالذهب الذي لم يكن حكرًا على الأرض فقط بل انعكس في روح أهلها، وستسرد الجداريات الأربع على العقارات حكايات متكاملة بين الماضي والحاضر والمستقبل”.

فرسم الزوجان في العقار الأول الرجل المسن ذو الوجه المليء بالتجاعيد، ليظهر فكرة “حارس الحضارة”، كما تراه “مها”، وفي الثاني، الفتاة ذات البشرة السمراء والمرتدية للحلي، لتعبر عن “دور المرأة المهم في الحرف التقليدية”، ومن بعدهما، شاب يمثل بناة السد، ليزين العقار الثالث، والآن يستكملان الرسمة الرابعة عن الطفلة النوبية والمستقبل الذي ترمز له.

تقول “مها” التي تستنفد كل طاقتها بنهاية اليوم: “بقدر ما أن الأمر مرهق، ويحتاج للكثير من الدقة والتركيز، فهو ممتع”.

وقد ظهر اهتمام حكومي بمسألة تزيين الطرق، العام الماضي، حين ظهرت صور ضخمة لملوك مصر القديمة على جانبي الطريق الدائري المؤدي إلى المتحف المصري الكبير، ثم جاء قرار وزير الثقافة بتعميم فكرة “مها” وزوجها، ليصبح رسمهما نموذجًا في إحياء الهوية المصرية المعاصرة وإبراز جماليات الفنون التشكيلية في الفضاء العام، بحسب الوزير، الذي أراد إضافة تدريب شباب الفنانين التشكيليين بالمحافظات على تقنيات تنفيذ الجداريات.

ولما عرفت “مها” الخبر، لم تصدق أن ذلك حقيقي، فتقول: “كان حلمًا بالنسبة لي، فهذه البصمة التي نريد أن نتركها، كما فعل من رسموا على جدران المعابد”.