(بي بي سي).

ممكن يعجبك: رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق يغادر حزب بيني جانتس.. تعرف على الأسباب وراء هذا القرار!
تُعتبر الملكة إليزابيث الأولى، ابنة الملك هنري الثامن، الوحيدة في تاريخ إنجلترا التي لم تتزوج إطلاقًا، وقد تكشف زيارتها الأخيرة لقلعة كينيلورث قبل 450 عامًا عن بعض الأسباب وراء هذا القرار، حيث يسلط معرض فني جديد يقام داخل القلعة الضوء على مشاهد من الخيانة وقطع الرؤوس، بالإضافة إلى قصص حب معقدة.
في أحد أمسيات يوليو/تموز عام 1575، وصلت الملكة إليزابيث الأولى، التي كانت تبلغ من العمر 41 عامًا، إلى قلعة كينيلورث في مقاطعة وركشاير، وكانت هذه الزيارة الأطول والأخيرة لها.
أهدت الملكة القلعة إلى روبرت دادلي عام 1563، ومنحته في العام التالي لقب “إيرل ليستر”، ويُعتبر دادلي من أبرز المقربين للملكة، ويعتقد أنه كان صديقًا لها منذ الطفولة، وقد أثارت طبيعة علاقتهما الكثير من الجدل.
أجرى دادلي تجديدات كبيرة في القلعة استعدادًا لاستقبال الملكة غير المتزوجة، حيث شيّد أبنية جديدة، وأقام حديقة أنيقة، ونظم عروض ترفيهية استثنائية تضمنت الموسيقى والرقص والألعاب النارية، بالإضافة إلى فقرات فنية أدّاها ممثلون يرتدون أزياء مسرحية.
لم يدخر دادلي جهدًا أو مالًا، فقد بلغت تكلفة الاحتفالات نحو ألف جنيه إسترليني يوميًا (ما يعادل 1400 دولار في ذلك الوقت)، وهو مبلغ يُقدّر اليوم بملايين الجنيهات، وقد اعتُبرت هذه الاحتفالات بمثابة عرض زواج فخم ومكلّف، يعادل استئجار طائرة لرفع لافتة مكتوب عليها “تزوجيني” في عصرنا الحالي.
يقول جيريمي آشبي، كبير أمناء متحف “التراث الإنجليزي”، لبي بي سي: “كانت احتفالات عام 1575 محاولةً لاستمالة إليزابيث، فالزواج كان أحد الموضوعات الظاهرة في بعض الأنشطة”.
ووصفت إليزابيث غولدرينغ، التي أجرت دراسة موسعة عن دادلي، هذه المناسبة بأنها “آخر رمية نرد له”.
بدت الأمور تسير بشكل جيد حتى وقع تحول مفاجئ، فقد كان من المقرر أن يتوجّه برنامج الإقامة إلى ذروته بعرض مسرحي يُعرف باسم “القناع”، يوم 20 يوليو/تموز، إلا أن العرض لم يُقدّم، فهل كانت الأحوال الجوية السيئة السبب، كما جاء في الرواية الرسمية؟ أم أن الملكة اطلعت على مضمون العرض واستشاطت غضبًا؟ إذ تضمن العرض الإلهة ديانا، ربة العفة، وهي تبحث عن إحدى حورياتها الطاهرات، والتي تحمل اسم “زابيتا”، وهو اسم يُشير بوضوح إلى إليزابيث.
كان من المفترض أن يُختتم العرض بظهور رسول من الإلهة جونو، ربة الزواج، يتحدث إلى الملكة إليزابيث مباشرة، متوسلاً إليها ألا تسلك طريق ديانا، بل أن تختار الزواج بدلاً من العزوف عنه.
وعلى الرغم من أن دادلي كان يحظى بمرونة في علاقته مع الملكة، إلا أن هذه الرسالة ربما تجاوزت الحدود، ومهما يكن الأمر، لم يُقدَّم العرض، وانتهت مظاهر الاحتفال، ومكثت الملكة في جناحها بضعة أيام أخرى قبل مغادرتها القلعة في 27 يوليو/تموز.
“مليئة بالكبرياء وحادة الطبع”
أحيت الفنانة ليندسي مندك الذكرى الـ 450 لزيارة الملكة من خلال تصميم عمل نحتي ضخم بعنوان “اللعبة الشريرة” داخل القلعة، يستلهم هذا العمل موضوعه من الميثولوجيا القديمة ومن تفاصيل زيارة الملكة إليزابيث الأولى، وكيف وُظّفت صورتها كعذراء في تنفيذ مناورات سياسية ذكية خلال فترة حكمها التي استمرت 45 عامًا.
يتكون العمل من 13 مشهدًا متنوعًا، بعضها يحمل طابعًا شريرًا، وبعضها الآخر يحمل طابع الكوميديا السوداء، وتُصوّر المنحوتات الملكة ومن حولها في هيئة حيوانات، حيث تُجسد إليزابيث كلَبؤة، ودادلي كدب، ورُتبت هذه المشاهد على قطع من رقعة شطرنج ضخمة.
وقالت مندك لبي بي سي: “لعب الشطرنج هو أفضل تشبيه لما اضطرت إليزابيث إلى فعله كي تضمن بقاءها”.
وأضافت: “أراها شخصية شديدة الأهمية، وتمثل مدخلاً مهمًا لفهم كيفية تعاملنا مع النساء اليوم، كان الحدث الذي نظّمه دادلي في كينيلورث يُفترض أن يكون احتفالًا ضخمًا لإليزابيث، مليئًا بالترف والمتعة، إلا أنه كان أيضًا مشحونًا بدلالات خفية، فالعزوف عن الزواج أو الإنجاب بالنسبة لنساء قويات مثل إليزابيث كان يُعد فعلًا متطرفًا يهدف إلى حماية الذات والحفاظ على السيادة الشخصية”.
تُعتبر الملكة إليزابيث الأولى، ابنة هنري الثامن، الملكة الإنجليزية الوحيدة التي لم تتزوج إطلاقًا، واعتلت العرش عام 1558 وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، وقد ورثت عن سلفيها، أخيها غير الشقيق إدوارد السادس وأختها غير الشقيقة ماري الأولى، أزمات دينية وسياسية واقتصادية معقدة.
دأب المستشارون وأعضاء البرلمان على مطالبتها بالزواج حفاظًا على أمن البلاد، حيث كانت فكرة تولي امرأة الحكم منفردة تعد أمرًا غير متصور في ذلك الوقت، وكان الاعتقاد السائد أن الملكة يجب أن تتزوج، ليس فقط لتأمين وريث ذكر وتفادي النزاعات على العرش، بل أيضًا ليتولى رجل إدارة الشؤون السياسية والعسكرية.
لم تهدأ المطالبات بالزواج، وتوالت المقترحات من شخصيات عدة، سواء عبر وسطاء أو بأنفسهم، وعلى الرغم من ذلك، ظلّت إليزابيث ترفض هذه العروض وتُراوغها مرارًا، فما هو السبب؟
“لا سيد عليها”
كانت إليزابيث تدرك تمامًا أن المرأة تستطيع أن تمارس الحكم بكفاءة، دون الحاجة إلى إشراف رجل أو توجيه منه، ففي صيف عام 1544، شاهدت الملكة كاثرين بار – زوجة هنري الثامن – وهي تتولى السلطة بكل حزم أثناء غياب الملك في حملته العسكرية بفرنسا.
أثبتت كاثرين جدارتها كوصية على العرش، ويبدو أن إليزابيث تأثرت تأثرًا بالغًا بمشهد زوجة أبيها وهي تمارس السلطة وتفرض احترامها على الوزراء والنبلاء رغم نفوذهم ومكانتهم.
علاوة على ذلك، لم تُقدّم أسرة إليزابيث القريبة نموذجًا يُحتذى به في الزواج أو يُبرز محاسنه، فقد أمر والدها باعتقال والدتها، آن بولين، بتهمة زور تتعلق بالزنا والتآمر، ثم اتخذ قرارًا صادمًا بإعدامها بقطع الرأس، ولم تكن إليزابيث آنذاك قد بلغت الثالثة من عمرها.
ومن بين المنحوتات التي أبدعتها مندك، عمل فني يُمثّل هذا الإعدام، حيث تظهر آن في هيئة ثعلب راكعة في صلاة، أمام الجلاد المتجسّد في صورة كلب شرير.
ذهب بعض المحللين إلى أن إليزابيث ربما كانت تعاني من خوف عميق من العلاقة الجنسية، حيث تتأمل أليسون وير في كتابها “إليزابيث، الملكة” في احتمال أن تكون الملكة قد ربطت بشكل معقد بين العلاقة الجنسية والموت.
وصوّرها مسلسل أنتجته بي بي سي عام 2005، بعنوان “الملكة العذراء”، في شكل ملكة مذعورة من الجنس، حيث قالت كاتبة السيناريو، بولا ميلن، للصحيفة حينها: “لو طُلب مني كتابة عمل عن امرأة معاصرة قُتلت والدتها على يد والدها، لكان من البديهي أن أتناول الآثار النفسية لذلك”.
كانت إليزابيث تميل إلى مرافقة الرجال الجذّابين، وكانت لا تخلو أحيانًا من ملامح الغزل في تعاملها معهم، إلا أنها كانت تمتلك دوافع وجيهة للخوف من الحمل ومخاطر الولادة، حيث وصفت عملية الإنجاب في عهد آل تيودور بأنها محفوفة بالمخاطر، إذ توفيت جين سيمور، الزوجة الثالثة للملك هنري الثامن، أثناء الولادة، كما توفيت كاثرين بار إثر مرض أعقب ولادتها لطفل، وكذلك توفيت جدة إليزابيث، إليزابيث يورك، بعد ولادة طفلها.
“كيف قُدمت صورة إليزابيث؟”
من نفس التصنيف: ترامب يأمل في قبول إيران لمقترحاته.. وإلا العواقب ستكون وخيمة
إلى جانب دوافعها الشخصية، كانت هناك اعتبارات سياسية دفعت إليزابيث إلى العزوف عن الزواج، من بين هذه الاعتبارات رغبتها في إبقاء البلاد بمنأى عن تأثير القوى الأجنبية، كما أن احتمال ارتباطها بالزواج كانت بمثابة “ورقة ضغط” تعزز موقفها الدبلوماسي في تعاملاتها مع فرنسا وإسبانيا وغيرها من الدول.
في المقابل، لو أنها اقترنت بأحد نبلاء إنجلترا، وكان روبرت دادلي مرشحًا محتملاً لولا وفاة زوجته إيمي روبسارت في ظروف غامضة عام 1560، لأثار ذلك استياء نبلاء آخرين وأحدث خللاً في ميزان القوى الداخلية في البلاد.
وهكذا، أبقت إليزابيث الجميع في حالة ترقب، ويبدو أنها كانت تمتلك فهماً غريزياً لما يُعرف اليوم بإدارة العلاقات العامة، إذ كانت حريصة على أن تُظهر نفسها كملكة متفانية تمامًا في خدمة شعبها، ومنذ بداية فترة حكمها، بدأت ترسخ صورتها بوصفها “الملكة العذراء”، وفي عام 1559، قالت رداً على أعضاء البرلمان الذين ألحّوا عليها بالزواج: “سيشهد حجر من الرخام ذات يوم أن ملكةً، حكمت لفترة من الزمن، عاشت وماتت عذراء”.
ففي المشهد الختامي من فيلم “إليزابيث” الذي أخرجه شيخار كابور عام 1998، أدت الممثلة كيت بلانشيت دور الملكة الشابة، وأعادت تجسيدها مرة أخرى في الجزء الثاني عام 2007 بعنوان “إليزابيث: العصر الذهبي”، حيث نراها تتعمد التحول إلى شخصية “الملكة العذراء”، وتظهر بثوب أبيض أمام بلاطها المذهول وتعلن: “أنا متزوجة من إنجلترا”.
وعلى الرغم من أن فيلم كابور لا يلتزم بدقة السرد التاريخي، فإن الحوار فيه يعكس قولاً حقيقيًا للملكة عام 1559، حين أعلنت بأنها لن تتزوج لأنها “مرتبطة بالفعل بزوج، ألا وهو مملكة إنجلترا”، واللافت أن شقيقتها ماري الأولى، المعروفة بلقب “ماري الدموية”، كانت قد أعلنت تصريحًا مماثلاً، لكنها تزوجت بعد ذلك فيليب الثاني ملك إسبانيا.
شكّل قرار عدم زواج الملكة إليزابيث عنصرًا محوريًا في تجسيد شخصيتها في الثقافة الشعبية، وقد عُرض هذا الربط بين الجنس والموت بوضوح في مسلسل لبي بي سي حائز على عدة جوائز إيمي بعنوان “إليزابيث آر” عام 1971.
ففي الحلقة الافتتاحية، تقول إليزابيث، التي أدّت دورها الممثلة غليندا جاكسون: “لم أثق في أي رجل منذ أن كنت في الثامنة من عمري، حين رأيت الملكة كاثرين هوارد (الزوجة الخامسة لهنري الثامن – التي أُعدمت) تجري وهي تصرخ في أروقة القصر تتوسل للملك هنري العظيم، لقد خانها الرجال من كل جانب، تبدأ الحكاية بالثقة، ثم الشغف، وتنتهي بالموت”.
قدّمت ميراندا ريتشاردسون شخصية إليزابيث بشكل ساخر في الموسم الثاني من المسلسل الكوميدي المعروف “بلاك آدر”، حيث تقول في الحلقة الأولى: “الجميع يبدو وكأنهم يتزوجون، باستثنائي أنا”، غير أن الملكة، في سياق الأحداث، تستخدم وعد الزواج كوسيلة لإخضاع بلاك آدر وغيرهم لرغباتها.
والسؤال هنا هو: هل تركت إليزابيث الحقيقية المجال أمام دادلي ليظن أن فرصته معها قائمة؟ وما دلالة زيارة كينيلورث في إطار علاقتهما؟
يقول آشبي: “لا أعتقد أن دادلي شعر بإهانة جراء رفضها لطلبه الزواج، بل كان مسرورًا بأن يُنشر سرد رسمي عن الاحتفالات بعد فترة قصيرة، كما أوصى في وصيته بالإبقاء على القلعة كما كانت تمامًا، وأظن أنه اعتبر عام 1575 بمثابة (أروع لحظاته)، ومن المؤكد أنه لم يبتعد عن الساحة العامة بعد تلك السنة”.
واستشاطت الملكة إليزابيث غضبًا من دادلي حين تزوج من ليتيس نوليز عام 1578، غير أنها سامحته لاحقًا، وعندما توفي عام 1588، أغلقت على نفسها غرفتها لفترة طويلة حتى اضطر كبير مستشاريها إلى إصدار أمر بفتح الأبواب بالقوة.