الوادي الجديد – محمد الباريسي:

مواضيع مشابهة: فوسفات مصر تطلق مشروع إنشاء أول مدرسة تكنولوجية للتعدين في الوادي الجديد
في قلب الصحراء الغربية، وعلى بعد 35 كيلومترًا شمال مدينة موط، عاصمة واحة الداخلة بمحافظة الوادي الجديد، تتألق قرية “القصر الإسلامية” كتحفة معمارية فريدة ومتحف مفتوح يحتضن تاريخًا عريقًا يمتد عبر العصور الفرعونية والرومانية والإسلامية، إنها ليست مجرد قرية بل تجسد أصالة العمارة الإسلامية، وواحة استشفاء، وذاكرة حية تعود إلى لحظات دخول القبائل الإسلامية إلى الواحات قبل حوالي 14 قرنًا.
أول من استقبل القبائل الإسلامية
يقول الخبير الأثري منصور عثمان، مدير الآثار الإسلامية والقبطية بالوادي الجديد سابقا، إن بداية قرية القصر تعود إلى عام 50 هجريًا، حين كانت أول قرية تستقبل القبائل الإسلامية بالصحراء الغربية، واحتضنت بقايا مسجد يُعتبر من أقدم المساجد في مصر، ولا تزال أطلاله قائمة حتى اليوم، وفي تلك الفترة، بدأت ملامح قرية جديدة تتشكل، سرعان ما ازدهرت في العصر الأيوبي لتصبح لاحقًا عاصمة الواحات، وتحمل اسمها نسبة إلى “قصر الحاكم” الذي كان يدير شؤون المنطقة.
عمارة تُقاوم الحرارة
قال منصور، في تصريحات خاصة لـ”نبأ العرب”، إن قرية القصر تُعتبر نموذجًا نادرًا للمدن الإسلامية المتكاملة، حيث لا تزال تحتفظ بتخطيطها الهندسي الإسلامي الذي قُسِّمت بموجبه إلى دروب وأحياء، لكل منها بوابة تُغلق ليلاً، وأضاف: “القرية تضم عشرة أبواب رئيسية تُغلق على الحارات في الليل حماية من الغارات، وكان شيخ كل حارة هو الوحيد المسموح له بفتح الأبواب صباحًا”، وأشار إلى أن منازل القرية بُنيت من الطوب اللبن خلال العصرين الأيوبي والعثماني، على ارتفاع دقيق وتنظيم معماري فريد، يسمح بخفض درجة الحرارة داخل المنازل إلى 12 درجة مئوية مقارنة بالخارج، ما يدل على عبقرية هندسية مبكرة استغلت ضيق الممرات لتوليد تيارات هوائية تُبرد الجو في الصيف.
كنوز أثرية
وأوضح مدير منطقة الآثار بالوادي الجديد، محمد إبراهيم، أن قرية القصر تحتوي على آثار نادرة من عصور متعددة، من بينها بقايا أحجار القصر الروماني، التي أُعيد استخدامها في بناء واجهات المنازل القديمة، إلى جانب مدرسة العلوم الشرعية التي أنشئت في عهد المماليك منذ نحو 500 عام، وحوّلها الأتراك لاحقًا إلى محكمة وسجن، وأضاف إبراهيم: “المدرسة مكونة من طابقين وإيوان وعدة غرف مبنية من الطوب اللبن، ومزودة بنوافذ تهوية مصممة بطريقة معمارية تمنع دخول حرارة الشمس، وتُظهر الزخارف المعمارية المملوكية والعثمانية على الأبواب والأعتاب”.
الحياة اليومية.. من معاصر الزيت إلى الفخار
يقول أحمد زكي، صحفي من أبناء قرية القصر بالداخلة، إنه كانت “القصر” مجتمعًا متكاملًا، اعتمد سكانه على تجارة الزيتون، إذ أنشأوا أقدم معصرة زيت بالمحافظة، يعود تاريخها إلى نحو 6 قرون، كما كانت التمور تُخزن بكثافة، واستُخدمت الحيوانات في تشغيل معاصر الزيتون، بينما وُجدت طاحونة قديمة لطحن القمح، يستخدمها السكان في صناعة خبزهم التقليدي، وأضاف، يوجد بالقرية مبنى محكمة قديم، يضم صحنًا فسيحًا ومكانًا مخصصًا للقاضي، يُعتقد أنه يعود إلى العصرين العثماني والمملوكي، إلى جانب غرفتين استخدمتا كزنزانتين للمجرمين.
بوابة الحج إلى الحجاز
أكد الأثري طارق القلعي، مدير متحف آثار الوادي الجديد، أن قرية القصر كانت نقطة عبور رئيسية للحجاج والقوافل القادمة من بلاد المغرب العربي في طريقهم إلى الأراضي الحجازية، ما أضفى على القرية طابعًا حضاريًا متنوعًا، وجعل منها ملتقى ثقافيًا وإنسانيًا بين المشرق والمغرب.
مسجد نصر الدين
وأضاف القلعي، أنه في قلب القرية، يرتفع “مسجد نصر الدين” الذي يُنسب إلى أحد أولياء الله الصالحين، وضريحه قائم داخل المسجد، ومئذنته التي يبلغ ارتفاعها 21 مترًا تعود للعصر الأيوبي، ولا تزال تحتفظ بزخارفها وملامحها الأصلية، فيما تزين الأعتاب الخشبية الداخلية آيات قرآنية منقوشة بإتقان.
تخطيط مدهش وحارات تنطق بالحياة
يقول القلعي، إن القرية مقسمة إلى حارات تحمل أسماء الحرفيين والعائلات، مثل حارة الحبانية، حارة النجارين، حارة الحدادين، وحارة الفخارية، وكل منها تتجاور فيه المنازل المتلاصقة المزينة بأعتاب خشبية منقوشة بأبيات شعرية وعبارات تبارك لأصحاب البيت، وتُعد “الفاخورة” من أقدم أماكن صناعة الفخار بالواحات، ولا تزال تنتج حتى اليوم بنفس الطريقة اليدوية التقليدية، يقول محسن عبد المنعم، مدير الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، إنه إلى جانب ثرائها التاريخي، تُعد قرية القصر مركزًا للسياحة العلاجية، نظرًا لاحتوائها على عيون كبريتية غنية بالطين العلاجي، خاصة في منطقة “بئر الجبل”، ما يجعلها وجهة مفضلة لمرضى الروماتيزم وأمراض الجلد، كما أن البيئة المحيطة بالقرية تُعزز من مقومات العلاج الطبيعي بفضل نقاء الهواء وصفاء الجو.
معرض دائم للحرف اليدوية
وأضاف محسن، أن القرية تشتهر أيضًا بصناعة السجاد والخوص والجلباب الواحاتي والمشغولات اليدوية، ويحتضن أحد مبانيها معرضًا دائمًا يعرض منتجات أهالي القرية، حيث لا تزال الحرف اليدوية تُمارَس بنفس الدقة التي عرفها الأجداد.
أفضل قرية في مصر
في عام 2023، حصدت قرية القصر الإسلامية جائزة التميز الحكومي كأفضل قرية على مستوى الجمهورية، بعد أن جرى التقدم بملف متكامل عن مقوماتها السياحية والأثرية والعلاجية، تحت إشراف الدكتور نبيل حنفي، رئيس مركز الداخلة الأسبق، وصرح المهندس مجدي الطماوي، رئيس مركز الداخلة السابق، أن القرية شهدت خلال تلك الفترة حملة تطوير شاملة، شملت تجميل المدخل بطرازها المعماري باستخدام القباب والأقبية الهندسية، إلى جانب تطوير شبكات الصرف، وإحلال الطرق الداخلية، وتوثيق عناصرها التراثية ضمن ملف الترشح للجائزة.
لمسة من الفن وذاكرة السينما
في عام 1999، جرى تصوير مشاهد من فيلم “عرق البلح” داخل قرية القصر، حيث جسدت أحداث الفيلم معاناة قرية صعيدية تواجه التحديات بعد رحيل رجالها للعمل بالخارج، وهو ما أضفى بُعدًا سينمائيًا إنسانيًا على المكان، ورسّخ صور القرية في وجدان المشاهدين.
شوف كمان: إصابة 14 شخصًا في حادث انقلاب ميكروباص على الطريق الصحراوي الغربي بأسيوط
مشروع إنقاذ شامل بدعم ياباني
يؤكد الطماوي، أنه ضمن جهود الحفاظ على التراث، أُطلق مشروع لترميم مباني القرية الأثرية بدعم من الحكومة اليابانية، تحت إشراف وزارة الآثار المصرية، باستخدام نفس المواد الأصلية مثل الجريد والطوب الطيني، وهي نفس المواد التي استخدمها سكان القرية منذ قرون في بناء منازلهم، وصرّح خالد أحمد حسن، مدير هيئة السياحة بالخارجة، بأن المشروع يتضمن إشراك شباب القرية في أعمال الترميم، ما يُعد فرصة لإحياء الحرف القديمة وتشغيل أبناء المنطقة في نفس الوقت.