-مارينا ميلاد.

ممكن يعجبك: ياسمين من ذوي الهمم تحقق 88% وتروي قصة تفوقها في حلم دخول كلية الألسن (صور)
تبدلت الساحة هذه المرة، لم تكن عشبًا أخضر بل أرضًا صفراء ملوثة بالدماء، وكان سليمان يركض، ليس وراء الكرة بل يبحث عن كيس طحين أو صندوق طعام، عله يتمكن من العودة لعائلته التي تعاني من الجوع، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو ثلث سكان غزة يواجهون الجوع، لكن إسرائيل أقصت اللاعب السابق للمنتخب الفلسطيني سليمان العبيد من ساحة انتظار المساعدات يوم الأربعاء بعد أن استهدفته.
لم يعد “سليمان”، لاعب الوسط، إلى زوجته وبناته الثلاث بعد تلك المباراة القاسية التي كان يدرك نتائجها، لكنه كان محاصرًا بموت محتمل في كل الخيارات، إذ ارتفع عدد ضحايا الجوع إلى 197 شخصًا، بينهم 96 طفلًا وفقًا لوزارة الصحة في غزة، فقرر أن يجري ويراوغ حتى لو كانت تلك هي المرة الأخيرة له.
كان الشوط الأول من حياة “سليمان” بعيدًا عن هذه الأجواء، حيث نشأ في الشمال الغربي من القطاع، عند ساحل البحر، في مخيم الشاطئ الذي قضى فيه أغلب سنواته ولعب لناديه، ولا تزال هتافات جماهيره تتردد في أذنه، تصفيقهم وكلمات المعلقين كلما سجل هدفًا أو اقترب منه، “هل يفعلها الشاطئ؟، ممكن تكون لسليمان، هل يطلق القاضية؟.. لا صوت يعلو فوق صوت المخيم”.
لقد كانت الكرة و”سليمان” رمزًا للأمل في مخيم مكتظ يعاني من البطالة والفقر، حيث يُعتبر ثالث أكبر مخيمات اللاجئين في غزة، يقطنه أكثر من 100 ألف شخص، وقد أثر الحصار على حياتهم بشكل كبير، حيث قيد الصيد لستة أميال بحرية فقط، ونقص المرافق الترفيهية والاجتماعية العامة، وفقًا لوكالة الأونروا، وفي خضم كل ذلك، كانت الكرة المتنفس الوحيد لهم، كما قال محمود عطوة، أحد سكان المخيم، في لقاء تلفزيوني عام 2022.
وعندما سأله المذيع عن “سليمان”، أجاب: “من أفضل ما أنجبت الكرة الغزية”، وعندما استدار ليجد “سليمان” خلفه خارجًا من السيارة، ابتسم وعانقه بقوة، ثم ختم حديثه قائلاً: “في ظل الإمكانيات والظروف، ليس لدينا الكثير مثله”.
لم تكن الحياة سهلة في غزة حتى في أوقاتها العادية، ومع ذلك كان “سليمان” يدرك أنه يجب أن يفوز دائمًا، ويسجل الأهداف، ويتنافس على الدوري الممتاز، كما قال في إحدى لقاءاته، بدأت تلك الرحلة معه مبكرًا عندما كان في المدرسة، حيث اكتشفه شخص يُدعى محمد ابمرسه الذي نظم بطولات في الساحات الشعبية، وأخذه للتدريب بنادي خدمات الشاطئ، وهو النادي الذي انضم إليه لاحقًا، لكن هذا الرجل اختفى بعد أن أصبح أسيرًا في السجون الإسرائيلية لمدة عشرين عامًا قبل أن يخرج عام 2023، كما روى “سليمان”.
تغيرت خطته في عام 2009، حيث قرر ترك “نادي الشاطئ” ليعبر الخط الفاصل بين غزة والضفة الغربية، ويلتحق بنادي مركز شباب الأمعري، لكن لم يكن مسموحًا له بالذهاب، ففكر حتى وجد الحل في سيارة إسعاف!
“انطلق سليمان في سيارة إسعاف كما لو كان قاربًا في البحر، متوجهًا إلى عالم جديد بحجة وجود حالات صحية حرجة تحتاج إلى العلاج في الضفة الغربية”، كما قال ستيفان سانت ريموند، مدير العلاقات العامة في رابطة المحترفين العالميين، عندما التقاه هناك عام 2012.
في ذلك الوقت، كان “سليمان” يشعر بمشاعر مختلطة، حزينًا لتركه غزة وأسرته منذ ثلاث سنوات، وسعيدًا بإنجازاته مع ناديه الجديد، الذي تُوِّج معه بلقب أول نسخة لدوري المحترفين في موسم 2010-2011، حيث كان يتقاضى 2500 دولار شهريًا، لكنه كان خائفًا من إمكانية توقيفه وإعادته إلى غزة.
بدا “سليمان” للجميع وكأن جسده في الضفة لكن روحه في غزة، كما وصف “ستيفان”، وخلال جلستهما، عدّل “سليمان” طريقة جلوسه وابتسم، وقال لـ”ستيفان”: “حققت هدفي بأن أصبح لاعب كرة قدم محترف، وأجني المال، لكن الثمن غالٍ.. لست اللاعب الفلسطيني الوحيد الذي يعاني من هذا الوضع!”.
شارك “سليمان” في تصفيات كأس العالم بعد أن اختاره مدرب المنتخب الفلسطيني، حيث أدخلت تلك اللقاءات كرة القدم الفلسطينية إلى العالم، لكن عاد إلى غزة عام 2013 ولم يغادرها مرة أخرى.
لعب لنادي “خدمات الشاطئ” موسمًا واحدًا، ثم انتقل إلى نادي غزة الرياضي، حيث حصل على لقب هداف الدوري الممتاز في المحافظات الجنوبية في موسم 2015-2016، مسجلاً 17 هدفًا، ثم عاد إلى “خدمات الشاطئ” ليحقق لقب هداف الدوري الممتاز في موسم 2016-2017 بعد أن سجل 15 هدفًا، وفقًا لبيانات اتحاد كرة القدم الفلسطيني.
سجل “سليمان” أكثر من 100 هدف طوال مسيرته، مما جعله نجمًا في الأوساط الرياضية، حيث أطلق عليه ألقاب مثل “الغزال” و”الجوهرة السمراء” و”بيليه الكرة الفلسطينية”، ولم تتأثر لياقته ومهاراته رغم تجاوزه الأربعين، حتى جاءت حرب السابع من أكتوبر 2023.
نزح مع أسرته إلى الجنوب، ونجا عدة مرات، لتدخل معاناته في أشواط إضافية، وكان لديه أمل أن تنتهي كل هذه المعاناة ويتم الاتفاق على وقف إطلاق النار، كما تحدث مع أحد أصدقائه قبل أيام، لكن استهدافه الإسرائيلي أثناء بحثه عن الطعام لأطفاله يوم الأربعاء الماضي، زاد من عدد الرياضيين الذين رحلوا إلى 662 شخصًا منذ بدء الحرب، وفقًا لاتحاد كرة القدم الفلسطيني.
اقرأ كمان: وزير الخارجية الإسرائيلي يؤكد دعم الأغلبية لخطة الإفراج عن الأسرى
انتهت مسيرة “سليمان” بعد أن كان اهتمامه الوحيد هو الكرة، فكانت أسعد لحظاته عندما سجل هدف الصعود البحرية في مرمى فريق نماء، وأتعسها عندما هبط نادي الشاطئ لدوري الدرجة الأولى.
اقرأ أيضا: