سليمان العبيد.. قصة هداف غزة الذي استشهد في ساحة المساعدات على يد إسرائيل

-مارينا ميلاد.

سليمان العبيد.. قصة هداف غزة الذي استشهد في ساحة المساعدات على يد إسرائيل
سليمان العبيد.. قصة هداف غزة الذي استشهد في ساحة المساعدات على يد إسرائيل

تغيرت الساحة هذه المرة، لم تكن عشبًا أخضر بل أرضًا صفراء مشبعة بالدماء، كان سليمان العبيد، اللاعب السابق للمنتخب الفلسطيني، يركض ليس خلف الكرة وإنما وراء صندوق طعام أو كيس طحين، عله ينجو به لعائلته التي مضت أيام دون أن تتناول لقمة واحدة، كما هو حال نحو ثلث سكان غزة وفق تقديرات الأمم المتحدة، لكن إسرائيل أقصته خارج ساحة انتظار المساعدات، بعد استهدافه.

لم يعد “سليمان”، لاعب مركز الوسط، إلى زوجته وبناته الثلاث من تلك المباراة القاسية، التي كان مدركًا لنتائجها لكن لم يكن له خيار آخر، فمات الجوع حوله حتى بلغ عدد الضحايا 197 شخصًا، بينهم 96 طفلًا وفق وزارة الصحة بغزة، فاختار أن يجري ويراوغ بجسد منهك حتى لو كانت تلك المرة الأخيرة.

كان الشوط الأول من حياة “سليمان” بعيدًا عن هذا الواقع، فقد نشأ في الشمال الغربي من القطاع، عند ساحل البحر، في مخيم الشاطئ، حيث لعب لناديه وقضى أغلب سنواته، لطالما ترددت في أذنه هتافات جماهيره، تصفيقهم وكلمات المعلقين كلما سدد هدفًا، “هل يفعلها الشاطئ؟، ممكن تكون لسليمان، هل يطلق القاضية؟.. لا صوت يعلو فوق صوت المخيم”.

كانت الكرة و”سليمان” لهما بريق خاص في عيون سكان المخيم المكتظ، الذي يعاني البطالة والفقر، فهو ثالث أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، يقطنه أكثر من 100 ألف شخص، وقد أثر حصار غزة على حياتهم، فتم تقيد الصيد لستة أميال بحرية فقط، كما يعانون من نقص المرافق الترفيهية والاجتماعية العامة، وفق وكالة الأونروا، وسط ذلك كانت الكرة المتنفس الوحيد لهم، كما قال محمود عطوة أحد سكان المخيم في لقاء تلفزيوني عام 2022.

وعندما سأله المذيع عن “سليمان”، أكمل: “من أفضل ما أنجبت الكرة الغزية”.. ثم استدار ليجد “سليمان” خلفه خارجًا من السيارة، فابتسم وعانقه بقوة ثم ختم كلامه: “في ظل الإمكانيات والظروف، ليس لدينا الكثير مثله”.

486770894_1443635240312918_7124351884366183313_n

لم يكن الأمر سهلاً في غزة حتى في أيامها العادية، ومع ذلك كان “سليمان” يدرك أنه يجب عليه الفوز دائمًا، تسجيل الأهداف، المنافسة على الدوري الممتاز، كما قال في أحد اللقاءات، بدأت تلك المهمة معه مبكرًا، عندما كان في المدرسة، حيث تابعه شخص يدعى محمد ابمرسه، الذي كان ينظم بطولات في الساحات الشعبية وأخذه للتدريب بنادي خدمات الشاطئ، النادي الذي انضم إليه “سليمان” لاحقًا، وضعه هذا الرجل على بداية الطريق ثم اختفى، حيث أصبح أسيرًا في السجون الإسرائيلية لعشرين عامًا قبل أن يخرج عام 2023، كما حكى “سليمان”.

ثم تغيرت خطته عام 2009، بل أضاف عليها الكثير من الدراما، حين قرر أن يترك “نادي الشاطئ” ليعبر الخط الفاصل والنقاط الإسرائيلية بين غزة والضفة الغربية، ويلتحق بنادي مركز شباب الأمعري.

لكن في غزة، حيث الحصار من كل ناحية، لم يكن مسموحًا لـ”سليمان” الذهاب بالاتجاه الآخر، فكر كثيرًا حتى وجد الحل في سيارة إسعاف!

انطلق “سليمان” في سيارة إسعاف كمن يتخذ القارب في البحر للانطلاق إلى عالم جديد، بحجة وجود حالات صحية حرجة تحتاج إلى المعالجة في الضفة الغربية، هكذا قال ستيفان سانت ريموند مدير العلاقات العامة في رابطة المحترفين العالميين حين التقاه هناك عام 2012.

في ذلك الوقت، كان “سليمان” يعيش شعورًا مختلطًا، فهو حزين لتركه غزة وأسرته منذ ثلاث سنوات، وسعيد لإنجازاته مع ناديه الجديد، الذي تُوِّج معه بلقب أول نسخة لدوري المحترفين في موسم 2010-2011، ويتقاضى فيه 2500 دولار شهريًا، وخائف أيضًا لأنه في أي لحظة يمكن توقيفه وإعادته إلى غزة.

بدا “سليمان” للجميع أن جسده في الضفة لكن روحه في مكان آخر، في غزة، كما وصف “ستيفان”، وخلال جلستهما، عدّل “سليمان” طريقة جلوسه وابتسم، وقال لـ”ستيفان”: “حققت هدفي بأن أصبح لاعب كرة قدم محترف، وأجني المال، ولكن الثمن غالٍ.. لست اللاعب الفلسطيني الوحيد الذي يعاني من هذا الوضع!”.

شارك “سليمان” في تصفيات كأس العالم بعد أن وقع الاختيار عليه من مدرب المنتخب الفلسطيني، تلك اللقاءات الكروية التي أدخلت كرة القدم الفلسطينية ضمن نطاق كرة القدم العالمية وأدخلت “سليمان” في عالم مختلف عن حياة غزة، لكنه عاد إليها عام 2013 ولم يغادرها مرة أخرى.

لعب لنادي “خدمات الشاطئ” موسمًا واحدًا، ثم التحق بنادي غزة الرياضي وحصل معه على لقب هداف الدوري الممتاز في المحافظات الجنوبية في موسم 2015-2016، مسجلاً 17 هدفًا، وبعدها عاد إلى “خدمات الشاطئ” واقتنص معه لقب هداف الدوري الممتاز في موسم 2016-2017، بعد أن أحرز 15 هدفًا، وفق رصد بيانات اتحاد كرة القدم الفلسطيني.

سجل “سليمان” أكثر من 100 هدف طوال سنوات لعبه، ما جعله نجمًا في الأوساط الرياضية، بل لقبوه بـ “الغزال، الجوهرة السمراء، وبيليه الكرة الفلسطينية”، ولم تتأثر لياقته ومهاراته يومًا رغم تجاوزه الأربعين، حتى حلت حرب السابع من أكتوبر 2023.

نزح إلى الجنوب مع أسرته، ونجا مرة واثنتين وعشرة، لتدخل معاناته في أشواط إضافية، وبالنسبة له، كان هناك أمل بأن ينتهي كل هذا ويتم الاتفاق على وقف إطلاق النار، كما قال لأحد أصدقائه قبل أيام، لكن استهدفه الاحتلال أثناء بحثه عن طعام لأطفاله، ليصل عدد الرياضيين الذين رحلوا منذ بدء الحرب إلى 662 شخصًا، وفق اتحاد كرة القدم الفلسطيني.

اُطلقت الصافرة، وانتهت مسيرة “سليمان”، الذي لم يهتم خلال تلك الفترة إلا بالكرة، فكانت أسعد لحظاته كما يقول، “عندما سجل هدف الصعود البحرية في مرمى فريق نماء”، وأتعسها “عندما هبط نادي الشاطئ لدوري الدرجة الأولى”.

اقرأ أيضا: